قال المؤلف: زرت جنوب فرنسا في عام 1835، فحاولت أن أهتدي إلى ما تم للمركيز ده جنج بعد حلوله في هذه القرية، فلم أجد من ينبئني خبره، كأن الله أراد أن يموت هذا المركيز موتا خفيا بعد حياة اشتهرت بالمنكرات.
زوج لا كالأزواج
حيث ذكرنا اسم مدام دور بان ابنة المركيز، فلا مندوحة لنا عن أن نروي طرفا من قصتها لنختم بها سيرة آل جنج؛ فإن في قصتها عجبا، وقد قضى الله أن يجعل سيرة هذه العائلة موضوع أحاديث الناس بفرنسا نحو قرن من الزمن، لما احتوت عليه من العجائب والفظائع.
كانت ابنة المركيزة ده جنج في السادسة من عمرها عندما انتقلت والدتها إلى دار البقاء، فاحتضنتها جدتها والدة أبيها، فأقامت لديها حتى بلغت الثانية عشرة، فعقدت لها جدتها على المركيز ده بيرو خليلها في صباها، وكان المركيز شيخا قد ناهز السبعين، لكن لم يثنه سنه عن مغازلة الحسان، وكان مقربا عند الملوك الذين عهد دولتهم محبوبا لديهم. وكانت الفتاة لا عهد لها قبله بالرجال، فرأت زوجها رءوفا بها، فارتضت به وعدت نفسها سعيدة؛ إذ لقبوها باسمه، فأصبحت تدعى المركيزة ده بيرو.
وكان المركيز واسع الثروة وله أخ أصغر منه سنا قد خاصمه وعاداه واستحكم بينهما العداء، حتى إن المركيز لم يتزوج إلا ليحرم أخاه من ميراثه إذا رزق بمولود، لكن رأى المركيز أن الواسطة التي اتخذها لحرمان أخيه ضئيلة الجدوى؛ لكبر سنه، فانتظر سنة بل سنتين عسى أن يمن الله عليه بمعجزة كما من على زكريا من قبل، فأبى الله إلا أن تجري قدرته على أحكام العادة، وازداد بغض المركيز لأخيه، وخشي أن يموت بلا عقب، فعمد إلى طريقة وحشية هي أليق بالبهائم منها بابن آدم الراقي حسا ومعنى، ولكن هي النفس قد ترفع المرء إلى مقام الملائكة أو تضعه إلى منزلة الأبالسة. وقد كانت تلك الطريقة وسيلة قدماء أهل إسبرطة في الحصول على مولود من زوجاتهم بواسطة شخص غريب، إذا عجز الزوج عن الحصول عليه بنفسه.
ولم يجهد المركيز نفسه في إيجاد ذلك الشخص الغريب؛ إذ كان في قصره فتى ربيب بين السابعة والثامنة عشرة، وهو ابن أحد أصدقائه المتوفين عن غير مال، كان قد عهد به إلى المركيز ليربيه وهو على فراش موته. وكان هذا الفتى أكبر من حفيدته بعام وقريبا منها في أكثر الأوقات، فما لبث أن شغف بها حبا، وحاول أن يخفي هواه، فنمت عليه به أحواله، ولم يخف أمره عن عين المركيز النقادة، فوجم المركيز أولا لما شغل قلب الفتى وخشي على زوجته منه، ولكن لما خطر له خاطر الانتقام من أخيه بالوسيلة التي ذكرناها رأى في تعلق الفتى بزوجته تمهيدا لبلوغ مناه.
وكان المركيز لا يعزم إلا بعد تدبر طويل، فإذا صمم أسرع في تنفيذ عزمه، فلما تم له اختيار الوسيلة التي ارتآها استدعى ربيبه لديه، واستعهده كتمان ما يسره إليه، ووعده خيرا كثيرا إذا هو حفظ عهده وصان سره، ثم عرض عليه ما يرجوه منه، فظن الفتى أنها حيلة من المركيز ليعترف له بهواه، فاضطرب وكاد يرتمي على قدمي المركيز يقبلهما ويسأله الصفح، فأدرك المركيز ما يجيش بصدر ربيبه، فطمأنه وأقسم له «بشرفه» أنه صادق فيما يقول، ومصرح له أن يفعل ما يشاء للوصول إلى الغاية التي يرجوها، فما وسع الفتى «طبعا» إلا القبول، وأقسم لدى سيده أيمانا مغلظة أن لا يبوح بالسر الذي استؤمن عليه، وصرف له المركيز من المال ما يساعده على نوال المأمول، معتقدا أن المرأة مهما بلغت من الفضيلة لا تلبث أن يفتنها المال والشباب والجمال. ولكن خاب اعتقاده؛ إذ كانت زوجته ممن لا يهمهن إلا الشرف.
وما أسرع ما شرع الفتى في تنفيذ وصايا مولاه، فرأت منه المركيزة من أول يوم اهتماما بشئونها فوق ما كانت تعهده فيه من قبل، وإسراعا في تنفيذ أوامرها فوق ما تؤمل منه، فما كان يغيب عنها لحظة لقضاء حاجتها حتى يعود إلى جانبها. ولم تدرك المركيزة لهذا الاهتمام مغزى، فشكرت لبساطتها الفتى عليه. وبعد يومين تمثل لديها الفتى متحليا بأفخر اللباس، فأعجبت بحسن زيه، وامتدحت جميل ذوقه، وأخذت تتأمل في أجزاء ملبوسه قطعة قطعة، وتسأله عنها، وتقلبها بين يديها كأنها طفلة وكأنه «عروسة» تلهو بها، وكانت المركيزة تعامل ربيب زوجها معاملة الأخ، ولا تتكلف في حديثها معه، فما كانت معاملتها إلا لتزيد الفتى ولوعا بها، وكان مع فرط غرامه يهاب أن يفاتحها به؛ فيبقى أمامها خافق القلب ملجم اللسان. وكان يسأله مولاه كل ليلة عما وصل إليه، فيقول له الفتى: إنه لم يتقدم في يومه شيئا عن أمسه، فيؤنبه المركيز ويوبخه ويهدده بأخذ التحف والملابس التي أعطاه إياها وإخلاف الوعود التي وعده بها. ولما كاد أن ييأس منه أبلغه أنه إن لم يفعل ما أمره به يعهد به إلى غيره، وكفى بهذا التهديد الأخير إيقاظا لراقد همة الفتى؛ فتشجع وتجرأ ووعد المركيز أن يكون في ليله أجرأ منه في أمسه، فصار يتقرب للمركيزة ويروي لها أحاديث حب وغرام لينبه فيها عاطفة الميل إليه، فكانت تصغي المركيزة لأحاديثه بقلب طاهر ونية سليمة، ولا تفقه ما يرمي إليه الفتى. حتى إذا كان ذات يوم رأت المركيزة الفتى يطيل النظر في وجهها، فسألته عما به فاعترف لها بهواه، فوجمت في الحال وتبدلت سحنتها، ثم التفتت للفتى وأمرته بالخروج من غرفتها.
وأطاع المحب المسكين، فخرج من لديها قاصدا مولاه يبثه شكواه، فأبدى المولى تأثرا لحاله وصبره عليه، وقال له: إنه أخطأ في اختيار الفرصة التي كاشف فيها مولاته بهواه؛ فإن للنساء أوقاتا للقبول لا يرددن فيها الطالب، وأخرى تخيب لديهن فيها المطالب، فالسر في اختيار الأوقات التي تعرض فيها عليهن الحاجات. ونصح المركيز لربيبه أن ينتظر يومين ريثما تتناسى مولاته فيهما ما بدا منه وتتصالح معه، وأوصاه أن لا ييأس إذا انخذل أول مرة؛ فإن الفضل في الثبات. ثم أعطاه كيسا مملوءا بالذهب ليرشي به وصيفة المركيزة إذا اقتضى الحال.
واهتدى الفتى بنصائح المركيز التي أوحتها إليه خبرته، فتمثل لدى مولاته آسفا نادما، لكن المركيزة عاملته بالشدة مدة يومين، فشفعت فيه لديها وصيفتها وقالت لها: إن الشاب يعذر إذا رأى مثل جمال مولاته فعشقه، وله من حداثة سنه وطهارة حبه عذر آخر، فليس جرمه مما لا يقبل التوبة، وليست المركيزة ممن يرفض العفو؛ فخفضت المركيزة من شدتها، واستدعت الفتى لديها، فألقت عليه درسا من النصائح والآداب تلقاه وهو خافض الرأس مسبل العين، ثم مدت يدها وصافحته صافحة عنه، وعادت إلى سابق عهدها معه.
Неизвестная страница