ولما دخل الكاهن يحمل القربان تغيرت المركيزة، وارتسمت على وجهها علائم الرعب الشديد حيث عرفته، إنه ذلك اللئيم بيريت الذي أراد أولا أن يمنعها من الهرب من القصر، ثم قصد أن يسحق رأسها عندما ألقى وراءها جرة الماء لما أفلتت من يديه، ثم ذهب فأبلغ سلفيها أمر هروبها، وهو الآن يأتيها بالأشياء المقدسة التي تقربها من الله!
وكمدت المركيزة غيظها، ولما رأت الكاهن يقترب منها غير هياب لم تشأ أن تشهر أمره وتكدر صفو الساعة الرهيبة التي هي فيها بإظهار جرمه للناس، بل مالت إلى جهته، وألقت إليه هذه الكلمات: أيها الأب، ما أظنك إلا ذاكرا ما فات، فأتعشم أن تزيل ما بي من الشك بمشاطرتي في تناول هذا القربان.
فطأطأ الكاهن رأسه علامة الإيجاب، وتناولت المركيزة برشانة القربان فاقتسمتها معه مبرهنة له بذلك أنها سامحته كما سامحت شركاءه، وأنها ترجو من الله والناس أن يغفروا لها كما غفرت.
وانقضت الأيام وحال المركيزة على ما هي عليه، بل زادتها الحمى جمالا؛ فتوردت وجنتاها وأشرق وجهها، فقوي أمل الناس في شفائها. أما هي فكانت أدرى بحالها من غيرها فلم تغتر بظواهر الصحة الكاذبة التي تبدو عليها، وأيقنت أن ساعتها قريبة، فدعت إليها ولدها وكان قد بلغ السابعة، وألزمته جانب فراشها طالبة منه أن يطيل النظر إلى وجهها ليتذكره ما حيي ولا ينساها في صلواته، فبكى الغلام وعاهدها أن لا ينساها ولا ينسى أن ينتقم لها من قاتليها إذا بلغ سن الرجال، فراجعته أمه قائلة له: إن الانتقام بيد الله في السماء وبيد الملك في الأرض، وإنه يحسن بالمؤمن العاقل أن يكل أمره إليهما على كل حال.
وفي الثالث من شهر يونيو، وصل إلى جنج المسيو كتلان المستشار المنتدب من قبل برلمان تولوز لتحقيق واقعة المركيزة، وبصحبته الموظفون اللازمون لقضاء مهمته، لكنه لم يتمكن في مساء وصوله من رؤية المركيزة؛ لأنها كانت في دور إغماء طويل لبث بضع ساعات وعقبه استرخاء في أعصاب المخ لا يحتمل معها الوثوق في حديثها؛ فأجل القاضي مقابلتها إلى الغد.
وفي الغد انتقل المستشار إلى منزل «ديبرا»، فدخله بلا استئذان ولا سابقة إخطار، وقصد الغرفة التي بها المركيزة رغما عن معارضة القائمين على بابها له عند الدخول، فقابلته المركيزة وحادثته بذهن حاضر وتعقل تام، حتى ظن أن ما بلغه بالأمس عنها فرية يقصدون بها أن يمنعوه عن استجوابها .
وامتنعت المركيزة أولا عن حكاية الواقعة قائلة: إنها لا تريد أن تعفو وتتهم في آن واحد، ولكن أفهمها القاضي أن الواجب عليها قبل كل شيء احتراما للعدل أن لا تنكر شيئا مما حصل، وأن تذكر الحقيقة على وجهها؛ خشية أن يضل المحققون فيأخذون بجريرتها مظلوما أو يحكمون على بريء بدلا عن أن تنال يد العدالة المجرمين الظالمين، فاقتنعت المركيزة بهذه الحجة، وأخذت تشرح للقاضي وقائع الحادثة مفصلة، فلبثت مختلية معه ساعة ونصف ساعة أحاطته فيها علما بكل ما تم لها مع زوجها وأخويه.
وعاد القاضي في الغد فوجد المرض قد اشتد على المركيزة وتأكد بعينيه حالتها فتركها خشية أن يتعبها بالحديث، وكان قد حصل منها على كل ما تهمه معرفته فلم يطلب المزيد.
وابتدأت الآلام من ذلك اليوم تتناوب المركيزة فلم تطق صبرا على أمرها، وكانت تود أن تتظاهر بالصبر والثبات إلى آخر لحظة من حياتها فخانتها قواها، وصارت تصرخ من الألم صراخا قد اختلط بدعواتها، وانقضى عليها اليوم الرابع من شهر يونيو وصباح الخامس منه، وهي في هذه الحال، ثم فاضت نفسها في الساعة الرابعة من مساء ذلك اليوم، وكان يوم أحد، فارتدت الروح إلى بارئها تاركة دار الشقاء والفناء إلى دار النعيم والبقاء.
المحاكمة
Неизвестная страница