أما الفارس فكانت عيناه لا تنصرفان عن وجه المركيزة، فلم يستلفت إليه - كأخيه - الأنظار، ولا بدع فقد كانت المركيزة ذاك المساء تستهوي بجمالها القلوب وتستوقف الأبصار. ولما تمت الدعوة أخذ الحاضرون في الانصراف فشيع الراهب السيدات إلى باب القصر، ولبث الفارس لدى المركيزة. ولكن ما كاد يختفي الراهب حتى حانت التفاتة من المركيزة نحو الفارس، فوجدته باهت اللون شاحبه لا يتمالك نفسه من الوقوف، وقد سقط على مقعد عند مؤخر السرير، فوجلت المركيزة عليه، وسألته عما به، وقبل أن يتمكن من الإجابة تحولت عنه أنظار المركيزة إذ استلفتها منظر مريع: رأت الراهب داخلا غرفتها شاحب اللون كأخيه بيده كأس وغدارة، فأغلق وراءه الباب بالقفل مرتين، فاستوت المركيزة على ركبتيها فوق السرير وقد ارتبط لسانها فلم يبد منها صوت، ولم تخرج من بين شفتيها كلمة، فاقترب منها الراهب وشفتاه ترتجفان وشعوره قائمة وعيناه يكاد يخرج منهما الشرر، فقدم لها الكأس والغدارة قائلا بعد سكوت رهيب: مولاتي، تخيري بين السم والنار.
ثم قال مشيرا لأخيه إذ سحب سيفه: وحد الحسام!
وبرق للمركيزة بارق أمل إذ رأت الفارس يستل حسامه فظنته يدفع عنها، ولكنها ما لبثت أن خاب ظنها فرأت نفسها بين عدوين، ضعيفة بين قويين، فهبطت من فوق السرير جاثية تخاطبهما: رباه! ماذا صنعت لكما؟ وبماذا أذنبت نحوكما حتى تحكما بإعدامي وقد كنتما حكمي، فكيف أصبحتما من أخصامي، ولا أرى لي ذنبا أتيته إلا صيانتي لواجباتي نحو زوجي، وهو أخوكما وشقيقكما.
ورأت المركيزة الراهب مغضبا عن كلامها، ووقفته وحركاته وأنظاره تدل على عزم ثابت ونية راسخة، فحولت أنظارها نحو أخيه قائلة: وأنت أيضا يا أخي، يالله! يالله وأنت أيضا، ألا فأشفق علي لوجه الله.
فضرب الفارس الأرض بقدمه، ووضع سن حسامه على صدر المركيزة قائلا: كفى أيتها السيدة كفى، فأسرعي باختيار ما تستهونين من أنواع المنون، وإلا فلنا الخيار ...
فالتفتت المركيزة نحو أخيه مرة أخرى فصادف فم الغدارة جبينها الطاهر، فعلمت أنها ميتة لا محالة، فاختارت أخف أسباب الموت حملا، وقالت لقاتليها: أعطياني كأس السم، وليغفر الله لكما قتلتي.
ثم تناولت الكأس ولكن لم تجسر على شربه؛ إذ وجدت فيه شرابا أسود غليظ القوام فمجته نفسها. وطمعت في استرحام عدويها؛ فحاولت أن تستلين قلبهما القاسي، فصاح بها الراهب صيحة وعيد، وأشار لها الفارس إشارة تهديد نزعا منها كل أمل في البقاء، فرفعت الكأس إلى شفتيها، وتمتمت قائلة: رباه يا مولاي ارحمني!
ثم تجرعت ما في الكأس وسقط أثناء انسكابه في فمها بعض نقط على صدرها العاري فحرقت بشرتها كأنها جمرة نار، وكأن ما تجرعته مزيجا من الزرنيخ والسليماني الأكال ممددا في ماء النار.
وظنت المسكينة أن ذلك كل ما يرجوه عدواها منها، فألقت الكأس من يدها، ولكن أسرع الراهب فالتقط الكأس، ونظر فيه فإذا به راسب ما زال لاصقا بقاعه، فتناوله على رأس سكين من الفضة وضمه إلى ما لصق بجدران الكأس فتكونت منه كرة صغيرة في حجم البندقة، فقدمها للمركيزة قائلا: هيا يا سيدتي وابتلعي مرشة الماء المقدس.
2
Неизвестная страница