ثم نال شهادة العالمية من الدرجة الثانية بعد امتحان ظهر فيه أن الشيوخ ينقمون عليه نزعاته الفكرية المتأثرة بمذهب أستاذه.
وعين على أثر ذلك مدرسا في مدرسة دار العلوم وفي مدرسة الألسن الخديوية، ولما نفي السيد جمال الدين من مصر عزل تلميذه وأمر بالمقام في بلده لا يبرحه، وعفي عنه فجعل من محرري الجرنال الرسمي «الوقائع الرسمية» ثم عين رئيسا للتحرير.
وجاءت الثورة العربية، فحوكم مع زعمائها، وحكم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، قضى شطرا منها في سورية، ثم دعاه أستاذه السيد الأفغاني إلى أوروبا فأصدرا في باريس معا جريدة «العروة الوثقى» التي لم تعش إلا نحو ثمانية أشهر.
ثم رجع الشيخ إلى بيروت فعين أستاذا في المدرسة السلطانية، وكان يشتغل مع التدريس بالتأليف والكتابة، فألف «رسالة التوحيد» ونقل إلى العربية «رسالة الرد على الدهريين» التي كتبها السيد جمال الدين الأفغاني بالفارسية، وشرح «نهج البلاغة» و«مقامات بديع الزمان الهمذاني» ونشر في الجرائد مقالات عديدة.
وفي بيروت تزوج زوجته الثانية بعد وفاة زوجته الأولى.
وعاد من منفاه فعين قاضيا أهليا، فمستشارا في محكمة الاستئناف الأهلية، ثم جعل عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وهو أول مجلس أسس ليكون رسول الإصلاح، ثم عين مفتيا للديار المصرية، فظل في هذا المنصب حتى أدركه الأجل.
وفي عهد توليه الإفتاء كتب في إصلاح المحاكم الشرعية تقريرا جليلا وأصدر فتاوى ذات شأن، ووضع تفسير جزء عم وتفاسير لبعض السور ولبعض الآيات المشكلة، وألف «كتاب الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية» وكتب للمجلات والجرائد فصولا قيمة في موضوعات دينية وغير دينية. •••
هذه الصورة المجملة من تاريخ الشيخ محمد عبده؛ تبين مناصبه وتعدد مؤلفاته، لكنها لا ترسم جوانب عظمته؛ فإن المناصب والكتب ليست مجلي عظمة الشيخ محمد عبده، وإن كان ترك نفحة من النبل والعظم في كل ما اتصل به.
تخلد ذكرى العالم الكتب يودع فيها آيات عبقريته، ويخلد الأثر الفني ذكرى الفنان، أما المصلح فهو يهيئ للجماعة مثلا أعلى لم تعرفه من قبله، ويحاول أن يصرف إلى ذلك المثل القلوب محاولة تظهر فيها قوة نفسه وقوة عزيمته، ويظهر فيها فيض ما وهب من عبقرية وإلهام.
والشيخ محمد عبده مصلح جريء، حاول الهدم والبناء في أقدس هيكل عند البشر، فيما يعتبره الناس دينا.
Неизвестная страница