عزمت حكومة روسيا بعد حلولها في مرو على أن تجعل وراء بحر الخزر من البلاد الداخلة تحت سلطتها حكومة خاصة بها، لها مركز معين وقاعدة ترد إليها أحكام تلك النواحي، حتى تسهل المواصلة بينها وبين مرو، وهذه حركة جديدة لدولة روسيا في أطراف آسيا ، وهي وإن كانت لا تسر المحبين لإنجلترا ولكنها لا تحزن أعداءها.
الفصل الرابع والعشرون
نصيحة
أشد ما كانت هيبة الإنجليز وملكتها على الشرقيين قبل تكتيب الكتائب وعقد الألوية وسوق العساكر لمقاتلة عثمان دجمة على أميال من سواحل البحر الأحمر، وكان يخيل للسودانيين - بل يلابس اعتقادهم - أن القوة الإنجليزية مما فوق الطبيعة وعن مثلها تصدر خوارق العادات، وكان من ظنون الشرقيين في أقطار أخر أن غرائب القدرة البريطانية بلغت مقالع السحر، تدهش الألباب وتحير العقول، وإذا خلج في صدور أمة من الأمم صغيرة أو كبيرة لبعدها عن مركزها أن تغالبها على حق أو تناوئها في مرغوب؛ انشقت الأرض وانفطرت السماء، عن كماة من الإنجليز يصبون عليها أصوات العذاب، ويذيقونها أليم الوبال، ويخلبون الأرواح من الأجساد، فيغلبون ولا يغلبون، خصوصا إن كان مغالبوهم لا يحملون من السلاح إلا نوعا من الصنع القديم، مما كان يستعمله أبناء نوح بعضهم في مدافعة بعض.
إلا أن هذه الدولة العظيمة ألجأتها حوادث السودان أن تسوق جيشا للإيقاع ببعض العرب في نواحي سواكن، فتحركت الجيوش المنظمة لملاقاة عثمان ورجاله، وبنى القواد في الزحف قلاعا (مربعات) من العساكر الباسلة، مدرعة بلوامع من حراب البنادق (السنج) مسيجة بالآلات الجديدة، ومن صنع «رمنتون وهنري مارتين»، على أجود طراز يكون منه، وحصنوها بأبراج من المدافع لا تدانيها من سكان تلك القفار قوة، ولا تسمو إليها منهم قدرة، ولكن قوة اليقين أو تحكم الجهل دفع على الصفوف الإنجليزية جماعة من عراة العرب وحفاتهم، فهدموا قلاعها ونقضوا بنيانها، وقوضوا أبراجها، وبعد تدافع وتضام وتقدم وتأخر، في موقعتين عظيمتين، كر الإنجليز إلى سواكن (ساحل البحر) وأخلوا ساحات القتال، وتقهقر العرب إلى الجبال، وعج الإنجليز: غلبنا وانتقمنا.
ماذا أثرت هذه الغلبة العجيبة في نفوس السودانيين؟ ثبتت أقدامهم وقوت جأشهم، وجمعت كلمتهم، وذهبت بما كان يخامر قلوبهم من الهيبة والرعب، فجمعوا قواهم واستعدوا للقتال مرة ثالثة، فحرموا لسوء البخت أو حسن الحظ من ملاقاة خصومهم؛ لأن شدة الحر كانت من أعدائهم أو نصرائهم، حيث ألجأت العساكر الإنجليزية للجلاء عن تلك الديار، فأسرعت إلى البحر لا يستقر لها قدم إلا في مصر أو إنجلترا.
وما أثارته هذه الغلبة في قلوب السودانيين من ثائرة التهور دعاهم لتضييق الحصر على الخرطوم، لما علموا أن ليس في قدرتهم أن يقتفوا أثر الإنجليز في البحر، ولا يستطيعون الإيغال في طلبهم وهم على غوارب الموج، ولما اشتد الضيق بمن في الخرطوم نهض الجنرال جوردون بشجاعة الأبطال لرفع الحصار، فلم تكن إلا كرة تبددت فيها جيوشه وأعقبتها فرة إلى داخل المدينة لينتظر ما يأتي به القضاء.
ولكن ليستر وجه الهزيمة رمى ضابطين عظيمين من ضباط المصريين بالخيانة، وأمر أن يضربا بالرصاص فضربا وماتا، وهما: حسن باشا وسعيد باشا (في أخبار البرقيات)، أما هذا الغلب في السواحل على هذه الصورة البديعة، وما حل بجوردون فقد أسقط من شأن إنجلترا وقوتها في أقطار السودان عموما، وجعل كلمتها هي السفلى وبعث السودانيين على الاعتقاد بأنه إحدى كرامات محمد أحمد - لا حول ولا قوة إلا بالله.
خطب يعقب خطبا، وكرب يحدث كربا، هذه الصدمات المتتالية كشفت بعض الستار، وشف بها الحجاب، وأحدثت هزة في قلوب الهنديين، فكشر النوابون والرجاوات عن أنيابهم، ومدوا سواعدهم ينظرون إلى ما تطول، ويراجع كل واحد نفسه ويمنيها بقرب الخلاص من ضيق الاستعباد، ويلمح الفرص من خلال هذه الحوادث، انتشرت أخبار المصائب التي حلت بالجيوش الإنجليزية من مصيبة هكس إلى ما بعدها في جميع أرجاء الهند، وترى الناس زرافات وفرادى يتناجون في هذه المسألة ويرجعون على أنفسهم باللائمة فيما فرطوا من قبل وهم على ربوة الأمل، يستطلعون سوانح الفرص خصوصا المسلمين فيهم، كما أنبأتنا به الرسائل الواردة إلينا من أقطار مختلفة من البلاد الهندية، ونظن أن الدولة الإنجليزية وعماد قوتها الإيهام والتغرير يصعب عليها بعد الآن أن تعيد منزلتها الأولى في نفوس الشرقيين، خصوصا إذا أفضت حوادث الخرطوم إلى قتل جوردون أو أسره وافتتاح تلك المدينة وهي عاصمة السودان.
يزيد الطين بلة أن يشتد العثمانيون ويأخذوا بالحزم وقوة العزم في صيانة حقوقهم بأي وسيلة كانت، وربما نراه واقعا؛ فإن العقلاء منهم لا يغفلون عن حاجة الإنجليز لمسالمتهم؛ لأن الإنجليز يحكمون على خمسين مليونا من المسلمين جميعهم يعترفون بحقوق السلطان ويجيبون داعيه إذا دعا، وهم له أطوع من الترك أنفسهم، والحذاق من العثمانيين وإن كانوا يرون أن إنجلترا لا تعامل الدولة إلا بالتهديد والإرهاب، وجعلت هذا طريقا لنيل أغراضها منها، إلا أنهم يعلمون أن من المحال على إنجلترا أن تشهر على الدولة حربا، فإن سياسيي بريطانيا وهم أشد الناس خبرة بدقائق الأمور فضلا عن جلائلها؛ لا يخفى عليهم ما تكنه قلوب الهنديين من محبة صاحب السلطة الإسلامية، بل هم على يقين بأنهم لو جهروا بالحرب للعثمانيين لتقوضت سلطتهم في الهند لأول وهلة، لا على المسلمين خاصة ولكن يتبعهم الوثنيون، وهذا ظاهر عند كل إنجليزي وإن خفي على بعض العثمانيين ورام ستره عن باقيهم.
Неизвестная страница