كان الهزيع الثاني من الليل قد فات، ولكن لم ينم أحد في منزل العملة إلا السيدة بطرس المسكينة تحرسها جاراتها ويعتنين بها.
هز نجيب كرم العمال فتناثرت الدريهمات من أكياسهم، تلك الأكياس التي تحتوي على التقتير القليل! إذ إن مجرى الإخاء كان قد تدفق من جميع القلوب الورعة. عند هذا أخذ نجيب المبلغ ونزل إلى المحطة ليضعه بين يدي السيد راغب فتبعه فريد وقال له: أود أنا أيضا أن أهب حصتي، فخذ كل ما في كيسي!
فتوقف نجيب وشخص إلى الولد بنظرات ملؤها الإعجاب وقال: أجل يا عزيزي فريد، إن ما صنعه العمال هذا المساء لعمل شريف! ما ضرنا إذا كانت حياتنا ضيقة بائسة وأفكارنا لم تنبت في المعارف والعلوم، ففي قلوبنا شعائر ترفعنا إلى مستوى أسمى من مراتبنا، وتضعنا في أوج عال لا تبلغ إليه حظوظنا!
4
مرت أيام عديدة لم يظهر بطرس في خلالها. وفي ذات يوم تلقت امرأته كتابا من بيروت جاء فيه أن خلل بيتها دعاه إلى النزوح إلى أميركا، حيث مهد له أحد أصدقائه مركزا يليق به وأنه لا يعود إلى لبنان قبل مرور عشر سنوات.
وبعد أيام جاء أهل السيدة بطرس إلى جونية ليأخذوا ابنتهم وولديها، فعندما عرف الأب وهو في العقد السابع من عمره تفاصيل الحادثة أخذ يبكي حتى انتحب وقال: إن الأربع المائة والستين الفرنك سترجع إليك بكاملها، إلا أنني أطلب منكم مهلة لوفائها، فأنا طبيب لا أملك مالا وعندي بنتان لا تزالان في البيت! آه! يا أصدقائي، إنكم سعداء ببناتكم فهن يشتغلن ويساعدن آباءهن العجز إذا لم يتوفقن إلى أزواج صالحين. أما نحن فبناتنا لا شاغل يشغلهن إلا التطريز والعزف على «البيانو» حتى يصادفن الفتيان الأغنياء، وهؤلاء يميلون غالبا عن اللواتي لا مهر لهن.
تركت السيدة بطرس جونية في منتصف شهر أيار قبل أن يخلف أحد زوجها في وظيفته. فأخذ فريد على عهدته القيام بالوظيفة غير عابئ بالأتعاب والجهود التي تستوجب لذلك. فكان المدير يقول له: إن حميتك لا تلبث بدون مكافأة يا فريد، فالمفتش يتفحص عنك كلما زار الإدارة وستجازى عن قريب جزاء تستحقه غيرتك ونشاطك.
كان الفتى يجتهد في عمله ويسعى في إرضاء رؤسائه بما أوتيه من الحذاقة والنشاط، وكان وهو في مكتبه يفتح من حين إلى آخر درجا سريا ويأخذ منه كتابا من الشعر يضم نخبة صالحة لأكبر شعراء العصر. كان فريد قد استظهر معظم هذه الأبيات الرقيقة، وبما أنه كان يستعذبها عهد إليها بكنزه الثمين، وهو زهرة ذابلة وضعها بين طيات الكتاب ففاحت عطورها وامتزجت بأشذاء الأرواح المتنقلة بين سطوره.
كانت هذه الزهرة ذخيرته الوحيدة التي بقيت له من ابنة أديب، فكان يقبلها قائلا: أتراها تحبني؟ أتراها تعطف علي؟
فهذه الزهرة الذابلة كانت تكفي لأن تنير مكتبه الساكن في ليالي الربيع وتضيء في ظلمات حياته المملة المتعبة! إلا أن فكرة أليمة كانت تعذبه وهي أنه لا يجرؤ أن يكاشف الفتاة بسره! ... •••
Неизвестная страница