ولكنها الحقيقة، ولنعد إلى ما حدث.
6
وإن يكن شوقي قد لاذ ساعة أن سألته، بالعملية الغريبة الدائرة في عقله، إلا أني في مرات أخرى بعد حادثة اللقاء ظفرت من بعض زملائه القدامى الذين التقيت بهم صدفة عنده، ظفرت بأشياء، فيها الغموض أيضا، ولكنها، رغم غموضها، استطاعت أن تحدد الملامح الرئيسية لدور العسكري الأسود في حياة شوقي وزملائه، دوره الخطير الثاني الذي لا يمت بصلة إلى الإشاعات الجنسية التي أطلقتها بعض الصحف عليه حين انكشف أمره، وبعد زوال حكم الإرهاب وبداية مراجعة الجرائم التي ارتكبت في ظله، كان عمل عباس محمود الزنفلي هذا أن يضربهم، يضرب بعضهم لكي يعترف، وآخرين لمجرد الضرب وهد الكيان، الضرب بمختلف أشكال الضرب، بالعصي، بالكرابيج، بالحذاء، بالنبوت، باليد العارية المجردة، ولم يكن أسود كما وصفته الصحف وأفاضت، كان فقط غامق السمرة ومن الصعيد، وكان مجرد مرآه بالهالة المحيطة به من أبشع القصص يثير الذعر في القلوب، كان طويلا أطول من قامة الكثيرين، ولكنه ليس فارع الطول، وكان يبدو دائما مزهوا بنفسه وبقوته، حتى على زملائه، إذا سلم على الواحد منهم ظل يضغط على يده - لمجرد الضغط - حتى يتأوه صارخا ويجثو، وحين يضرب كان من يراه لا يظن أبدا أنه يمت إلى الإنسان أو الحيوان بصلة، بل ولا حتى للآلة؛ فالآلة لا تبدو على وجهها المتعة المتوحشة وهي تضرب، ويا للحظات قدومه ودخوله العنبر ودوران مفتاحه في القفل! كانوا يعرفونها تماما وباستطاعتهم أن يميزوها عن غيرها حتى في الحلم، ويستيقظون - رغم خفوتها - على وقعها، ومع كل دورة من دوراتها تدور دوامات سريعة في صدر كل منهم يسقط فيها قلبه ويهوي، ترى من عليه الدور؟ صوت خطواته وهو يجتاز الفناء الأسفل! التسمع الرهيب لوقعها! آذانهم وكيف تعلمت، علمها الذعر الأعظم، أن تتركز فيها الحياة كلها ويتضخم دورها ليصبح كل العقل، ولتستطيع أن تميز بين الخطوات الذاهبة إلى زنزانة 7 في الدور الأول والأخرى المتجهة عبر الفناء إلى السلم حيث الدور الثاني، ومن أول وقع لأول خطوة على أول سلمة عليها أن تعرف إلى أي دور في نيته أن يصعد، فإذا اختار الدور عليها أن تدرك في ومضة خاطفة أي الزنازن يقصد، كي تعد نفسها إما إلى الرعب الهائل المقيم، أقصى درجات الرعب، وإما إلى استرخاءة مرعوبة هي الأخرى وتنهيدة حمدا لله.
ويا لخسة ضربه! في الحياة العادية حين يتشابك الناس ويتضاربون ليس هذا بضرب، فإحساس المضروب أن باستطاعته أن يرد الضربة يخفف كثيرا من وقع ما يتلقاه، والألم الذي ينتج عنها يتبخر في الحال ويستحيل إلى حافز يدفع صاحبه للهجوم والانقضاض، بالاختصار أنت لا تشعر بالضرب حين تكون حرا أن ترده، أنت تشعر به هناك حين يكون عليك فقط أن تتلقاه ولا حرية لك ولا حق ولا قدرة لديك على رده، هناك تجرب الإحساس الحقيقي بالضرب، بألم الضرب، لا مجرد الألم الموضعي للضربة أو الألم العام الناتج عنها، إنما بألم آخر مصاحب أبشع، أقوى، ألم الإهانة، حين تحس أن كل ضربة توجه إلى جزء من جسدك توجه معها ضربة أخرى إلى كيانك كله، إلى إحساسك وكرامتك كإنسان، ضربة ألمها مبرح؛ لأنها تصيب نفسك من الداخل إصابة مباشرة لا يحجبها أو يخفف منها جلد أو لحم أو عظام أو حرية أو حق الإنسان أن يتصرف كالإنسان ويرد، وهذه كلها دروع، لو تعلمون، عظيمة. إن حرية الإنسان، حقه أن يرفض أو يقبل أو يرد الاعتداء، جزء لا يتجزأ من جسده وكيانه ولحمه وجلده وأنسجته الواقية الحية، هي وليست ملابسه أو جدران بيته التي تحفظ عليه ماء حياته كإنسان، وتحميه، وهي التي إذا انتزعت منه لا يموت، كما يحدث للسلحفاة إذا انتزع غطاؤها، ليته كان يموت ، ولكنه يبقى إنسانا منزوع الحق في حماية نفسه والدفاع عنها، فما بالك إذا كان يرغم على أن ينتزع هو بنفسه هذا الغطاء، وتجبره القوة الغاشمة على السكوت، على تلقي الألم والسكوت، على التنازل عن إنسانيته وحتى عن خصائص الحيوان فيه والسكوت؟ حين يستحيل إلى كومة عارية من لحم خائف مذعور لا تستطيع أن تعض أو ترفس، عليها أن تتلقى الألم وتسكت عليه، والسكوت على الألم أشد إيلاما وإيذاء من الألم نفسه، خاصة إذا كنت أنت من تتولى إسكات نفسك، الضرب هذا النوع من الضرب، حين لا يبقى أمامك لكي تمنع ألمه وعاره إلا أن تحتمل وتصبر، أو تقتل نفسك وتنتحر، عمل لا يستطيعه ويقدر عليه معظم الناس، وحتى إذا قدروا فقانون الحياة نفسه يرفضه ويمنعهم من إتيانه؛ إذ كيف يعقل وأنت في موقف تدافع فيه عن نفسك ووجودك أنت تشرع في قتل نفسك ومحو وجودك؟ بالعكس، إن أبشع ما في الأمر أنك لا تحتمل فقط وتصبر، ولكنك تزداد استمساكا بالحياة، وتصل بك حلاوة الروح إلى درجة مخجلة في شدتها وقوتها، وهكذا في مقابل كل ضربة هائلة الألم عارمة القسوة مهينة تتلقاها من الخارج، تنهال عليك من داخلك وذات نفسك ألف لعنة، ألف طعنة، ألف إحساس مخجل مهين تمزق أحشاءك وتذيب كماء النار روحك؛ لأنك لا تموت ولا تريد الموت ولا تزال حيا تتمسك ذليلا الحياة.
والأبشع هو مرآه، مرأى الزنفلي عباس، العسكري الصعيدي الأسود وهو يضرب، ومنظره وهو يستمتع بتخريب كائن حي وإنسان، والمضروب يتحول أمامه إلى كتلة اللحم المذعورة التي تصرخ في فزع أعمى فلا يفعل مشهدها أكثر من أن يغريه بالضرب أكثر، والتمتع بلذة الهدم أكثر، فيمضي يضرب ويضرب سعيا وراء الفرحة الكبرى، كمن هدم جزءا من بناء ويسعى بمتعة وحشية كي يأتي عليه تماما، الضرب ذلك النوع من الضرب، حين يتحول المضروب إلى أنقاض إنسان مذعورة، أنقاض تتألم، وبوعي تحس بنفسها وهي تتقوض إلى أسفل، وبإرادتها الخائفة تمنع نفسها من أن ترد، ويتحول فيها الضارب إلى أنقاض إنسان من نوع آخر، وكأنه إنسان يتهدم إلى أعلى، يسعده الألم الذي يحدثه في ابن جنسه، ويستمتع بإرادة، وبإرادة أيضا يقتل الاستجابة البشرية للألم في نفسه فلا يكف إلا ببلوغ ضحيته أبشع درجات التهدم والتقوض، وبلوغه هو أخس مراحل النشوة المجرمة التي لا يستطيعها من المخلوقات جميعها ولا يستمتع بها غير الإنسان المنحط في الإنسان.
7
كنا قد وصلنا في رحلتنا إلى حارة لا تسمح بمرور العربة، رغم كل محاولات السائق لاستعراض براعته وإرغامها على المرور، فهبطنا، وبينما وقف السائق يذب عن الاستيشن واجن جيوش الأطفال التي تجمعت عليها، سرنا نحن الثلاثة، عبد الله بنفس قبقابه يحمل الدوسيه وحقيبة الكشف ويرينا الطريق، وشوقي بجواري، ومع كل خطوة يتضاعف شغفي وحب استطلاعي لرؤية هذا المارد الأسود الذي أرعب صفوة بأكملها من أبناء جيلنا الموعود، تراه كيف يبدو وقد دالت دولته من زمن وضاق عليه المصير؟ شغف جعلني أسهو عن شوقي وأصمت مثلما صمت، وأرحب بمحاولات عبد الله للتكاسل حتى يوازينا ويلقي في أسماعنا بجملة أو بذكرى يحملها لعباس محمود الزنفلي، كان واضحا أن تأففه من مهمة تشريك زميل له قد انتهى أو كاد، وكان واضحا أيضا أنه وقد ذهب الجرح عاد ليأخذ دوره المفضل، دور العارف بكل شيء، الحريص على أن يرينا أنه حتى في العسكري الأسود يعرف ما لا نعرف، ويتطوع أيضا بالنصيحة وبتقديم المعلومات. - دا شاف عز يا بيه! ولا العز اللي شافه فاروق! دا كان يدخل المحافظة ناقص يضربوا له نوبة سلام، كان يقدر ضابط من الضباط يكلمه وهو قاعد؟! كان ينقله على طول، حد منا كان يستجري يبص له ولا يهوب ناحيته؟! دا مرة، والله العظيم وشرفك انت يا سعادة البيه، وقع منه قدام عيني دي نص ريال ما رضي أبدا يوطي ويجيبه! والله، لما كنت تشوفه راكب جنب سواق رئيس الوزراء، ولا دولة الباشا، وكان جبار، أعوذ بالله! والله بعيني دي مرة شفته قفلوا عليه الأوضة اللي في الدور الثاني بتاع المحافظة اللي قصاد المكتب الطبي على طول هو وواحد من السياسيين، وقعد يضرب فيه من صباحة ربنا، والجدع يقول: آي! ولا هو سائل فيه، ولغاية ما روحنا احنا الساعة خمسة، وشرفك سبناه بيضرب فيه. - بطل كلام يا عبد الله، البيت فين؟
كان القائل شوقي، فوجئت وفوجئ عبد الله أيضا بصوته يرتفع بالكلمات أعلى مما يجب بكثير، صوت لا أذكر أن شوقي تحدث به أمامي أبدا، كان كلامه دائما يخرج وكأنه لا يريدك أن تحسب أنه قائله، صوت جعل عبد الله يسكت في الحال وترتد إلى وجهه تلك الصرامة النظامية التي كان كثيرا ما يرفعها أمام الدكاترة الشبان، ونظرت إلى شوقي، لم يكن عابس الوجه أو مقطب الملامح، كان يبتسم بطريقة غريبة، وكأنه يبتسم بنصف وجهه الأسفل فقط، ابتسامة من يستمع إلى هاتف بعيد، قلت له هامسا: إيه، افتكرت حاجة؟
بنفس الابتسامة قال: أبدا، ح افتكر إيه؟
وهممت بالعودة لتأمل الدكاكين التي نمر بها، والأطفال وهم يتجمعون حول موكبنا، لكني بهت حين وجدت شوقي يتخلى فجأة عن وقاره التقليدي ويمسك بذراعي ويجذبني بعصبية قوية ناحيته، ويهمس في أذني كطفل قرر لأمر ما أن يفضي إلي بسر: إنت عارف مين اللي كان بيضربه العسكري الأسود في المحافظة ده م الصبح للمغرب؟ عارف مين؟
Неизвестная страница