الحقيقة كنت أشعر بسرور صبياني الطعم وأنا جالس بجوار شوقي في المقعد الخلفي للعربة الحكومية، وسائقها يستغل سترته الرسمية في ارتكاب ما شاء من مخالفات، وفي المضي بسرعة مجنونة غير حافل بشتائم المارة والسائقين، أو مجيبا عليها في سره - تأدبا - بأقبح منها، وبجواره عبد الله التومرجي لا يكف عن الحديث، ولا يكف عن إلحاحه المقيت بأن نترك الموضوع للغد وللحكيمباشي، والضيق بالمهمة باد عليه، وكأن الكشف على زميل له «لتشريكه» وفصله مسألة تزعجه، ويأبى أن يشهدها أو يكون طرفا فيها، والصامت الوحيد تماما فينا كان شوقي، كان قد نحى الابتسامة التي كان يعقم بها ملامحه كي لا تنم عن انفعال أو حماس، ومضى - ربما للمرة الأولى وأنا معه - يفكر، ولا أظن أنه كان يفكر، ولكن عقله بالتأكيد كان يقوم بعمل ما في تلك الدقائق التي استغرقتها الرحلة إلى «قلعة الكبش» حيث كنا ذاهبين، عمل جاد خطير، ما في ذلك شك، تحس إذا نظرت إليه أنه يحرك أعماقه ويرجها بطريقة تئن معها أنينا صامتا وتتلوى، تلك التي قد ظننت أنها مثل قلب الشجرة أو النخلة حين يجف قد يبست من زمن وماتت.
ولم يكن سروري بغير مبرر، كنت رغم كل ما كتبته الجرائد عن العسكري الأسود لا أكاد أصدق احتمال وجوده الحقيقي، بل حتى لم أكن قد صدقت عبد الله وهو يؤكد لنا أن «عباس» هذا هو العسكري الأسود، لأمر ما كنت أوقف إيماني بوجوده وحقيقته إلى أن أراه رأي العين وأحادثه؛ ولهذا ارتضيت، بل طلبت من شوقي أن أصحبه، ولم تكن المرة الأولى التي أصحبه، ولكنها المرة الأولى التي أطلب فيها أن أصحبه، ولم يكن الأمر مجرد حب استطلاع، كان أكثره أن العسكري الأسود، مثله مثل السجون والإرهاب والأمجاد والكفاح المسلح، علامة رئيسية من علامات جيلنا، كيف تفوتني رؤيتها؟!
أردت أن أسأل شوقي عن حقيقة دور العسكري الأسود؛ هو الذي سجن، ولا بد أن لديه الحقيقة. أردت رغم كل تجاربي السابقة الفاشلة معه؛ إذ في كل مرة كان يرى السؤال يتراقص على لساني، أو يتخذ شكل الكلمات، كنت أفاجأ بنظارة الخيل التي تهبط في الحال، ومن مكان خفي وتجعله يشغل نفسه مشغولية عظمى بما في يده أو بالمريض الذي يسحب له السائل من بطنه، وبتلك الطريقة يبدو وكأنه ينكر، ليس علي وإنما على نفسه، أنه سمع مجرد السؤال، هذه المرة ورغم الظرف الحاد تنكر أيضا للسؤال ولاذ بالعملية الغريبة الدائرة في عقله، ولكني لم أيأس أعدت السؤال وألححت، وظللت أبسط ما أريد وأسهله إلى الحد الذي أصبح مجرد أن أعرف إن كان قد قدر لشوقي في أثناء سجنه أن يرى العسكري أو يمر به، وراحة عميقة ممزوجة بالدهشة والوجل والاستنكار، وأوله استنكار نجاحي، هو ما أحسسته وشوقي أخيرا ينطق ويجيب: أيوة، حصل.
راحة كراحة وكيل النيابة حين يظفر، لا بعد ليلة، وإنما بعد مئات الليالي، بعد سنين، ببارقة كلمة ينطقها شاهد، أو يلمح شبح اعتراف. وفي الحال سألته: يعني كلام الجرائد كان صحيح؟
قال شوقي بعد وقفة تردد: جايز، إنما العسكري الأسود كان بالنسبة لنا شيء تاني، شيء غير الحاجات الجنسية والكلام الفارغ اللي سمعت عليه، شيء تاني خالص.
وهذا الشيء الثاني هو ما رحت مستعملا كل مقدرتي على الاستدراج أسأل شوقي عنه، وأزداد إلحاحا، ساعتها لم أظفر منه إلا بكلمات قليلة ومعظم الأحيان أصوات مدغومة صادرة عن إنسان مشغول بما هو أخطر مما تنقله له أذناه، أو كل حواسه، ولم يقدر لي أن أعرف إلا فيما تلا ذلك من أيام، وإلا من النتف المتفرقة التي استطعت أن أختلس النظر إليها في البحث السري الذي انشغل شوقي بكتابته وتعمد أن يخفيه عني، ولا أريد أن أصور الأمر على أن ما عرفته كان التفسير الكامل لسلوك شوقي الغريب بعد خروجه من السجن، فالحكاية حينئذ تبدو ساذجة كحكايات الأفلام وتمثيليات الإذاعة، إنسان يدخل سجنا بشخصية ويخرج بشخصية أخرى مختلفة، ويظل سر هذا التغير يؤرق صديقا له إلى أن يبدأ شيء يحدث وتنفك العقدة، ويتكلم البطل ويفسر اللغز، وتنتهي المشكلة.
ليت الإنسان كان كذلك، ليته كان كمسائل الحساب أو تمارين الهندسة يخضع لقانون واحد أو تفسره بضع نظريات، ليته لم يكن ذلك الكائن الذي لا تزيدنا معرفتنا به إلا تصعيبا لمهمة فهمه، وأي حقيقة نكتشفها عنه ويخيل إلينا أننا بها وصلنا إلى سره لا تفعل أكثر من أن تضيء الطريق إلى مناطق كنا نجهلها، مناطق في حاجة إلى اكتشافات أخرى لا يفعل اكتشافها إلا أن يزيد من حاجتنا لكشف حقائق أكثر، التغير الذي حدث لشوقي لم يكن من ذلك النوع الذي يرجع لسبب معين أو وراءه سر، ولم يكن سكوت شوقي وعزوفه عن الحديث في السياسة أو مزاولتها مثلا بسبب عقدة نفسية تكونت له أو خوف، كان ما حدث لشوقي شيئا آخر، شيئا يشبه خروج الفراشة من دودة الشرنقة، أو تحول الخشب بفعل النار إلى رماد، وليس معنى هذا أيضا أنه كان قد تحلل وفسد، بالاختصار كنت قد بدأت - خاصة في الفترات الأخيرة - أتبين أني كنت على خطأ، وأن محاولاتي «لإنقاذ» شوقي كان لا يمكن أن تأتي بنتيجة؛ إذ كنت أقوم بها باعتبار أن ما حدث لشوقي كان مجرد تغيير أصابه، من الممكن جدا أن يشفى منه. الحقيقة بدأت أدرك أنها غير ما كنت أتصور تماما؛ فشوقي الذي دخل السجن لم يخرج منه، وإنما الذي خرج شخص آخر له مزايا ومضار أخرى، وأقول «شخص» كنوع من التبسيط لا أكثر؛ فالذي خرج علينا كان كائنا غريبا أخطر ما فيه أنه لا يختلف كثيرا عن شوقي الذي دخل، ولا عن ملايين البشر الذين كان يحفل بهم سطح الأرض حين انضم إليهم شوقي بعد خروجه؛ فهو يتكلم مثلهم، ويغضب، ويدبر أمور المستقبل، ويحب، وحتى حين يتحاشى الخوض في مواضيع بعينها لا يختلف عنهم، الفرق لا يتضح إلا هناك، وبعد طول دراسة ومعاشرة واهتمام غير عادي بالموضوع، هناك حيث تدرك، مثلما أدركت، أن الخلاف بين شوقي الجديد وبقية الناس يكمن عميقا ، أعمق من طبقات التصوف، في الدافع ربما، هناك تدرك أن شوقي وإن ظل في ظواهره بشرا، فهو في حقيقته لم يعد يمت إلى البشر ولا إلى أنواع الآدميين المتعارف عليها من عقلاء أو مجانين أو مرضى أو شواذ، باستطاعتك أن تقول إنه خرج ليكون نوعا جديدا قائما بذاته؛ إذ قد خرج ليحيا بدافع جديد تماما على الجنس البشري؛ فهو لا يحيا ليتكاثر أو يتطور، وإنما دافعه للحياة كان أن يهرب ويفر، وكأنه لم يعد يرى في الجنس البشري كله سوى جن وعفاريت، همها أن تنقض عليه وتعقره وتفتك به، هم جميعا شياطين، وهو وحده الإنسان، أو هم جميعا بشر وهو وحده الشيطان الذي يعادونه ويتربصون به، ولن يهدءوا حتى يقضوا عليه، ومأساته كانت أن عليه أن يظل يحيا على ظهر الأرض مع هؤلاء الذين يخاف منهم ويرهبهم، عليه أن يعاملهم ويتصرفوا في أمره ويتصرف في أمورهم ويصادقهم ويزاملهم، هو الذي ينتفض رعبا منهم، لم يعد لحياته خطة أو إرادة أو هدف بعيد يسعى لتحقيقه ويدفعه للبقاء حيا، دافعه للبقاء أصبح أن يهرب، ليس مجرد هرب بسيط يمكنه معه أن يتنصل من تبعات الإنسان العادي فيطرحها جميعا ويسير كالمجاذيب بلاد الله لخلق الله، أبدا! عليه أن يهرب وهو موجود بينهم، الفرار حينئذ يصبح عملية معقدة بالغة التعقيد، قد تستغرق العمر بأكمله، ما أغربه من كائن فقد أمنه البشري! وكأنما عقره كلب من نفس الجنس، وخيل إليه أنه نفذ بجلده من العقرة الأولى، فجند نفسه وحياته ليتحاشى العقرة الثانية، وأصبح لا يرى في البشر غير قطيع من ذئاب أو كلاب أو شياطين لا يستطيع أن يهرب من أرضها إلى كوكب آخر، أو يعتزلها في جزيرة نائية، قطيع يتربص به في كل مكان، عليه أن يلقى أفراده في كل وقت، ويحادثهم ويربط مصيره بمصيرهم، وعليه أن يفعل هذا دون أن يبدو عليه الذعر، عليه أن يسير بينهم كما تمر بالمكان الذي يعج بالوحوش الخطرة ترتجف من الذعر، آذانك منتصبة تتلقى أوهى الأصوات ، وكيانك كله مهيأ للجري في أية لحظة، ومع هذا فعليك أن تخفي كل ما بك، عليك أن تسير وتحيا دون أن يبدو منك أقل الخوف، تسير طبيعيا جدا، مطمئنا جدا، تؤكد بنظراتك وتعبيراتك أنك غير خائف أو مهتم، وأنك مبتسم، وأنك فرحان أحيانا، وغاضب أحيانا أخرى، وأنك مثلهم بشر، أو مثل الكلاب كلب، بل حبذا لو بدوت أقوى وأقدر وأكثر ثقة بنفسك وقواك، حياته لا هدف لها ولا خطة، ولا إرادة له فيها، ولا يريد من خلالها أن يصل إلى أي مأرب بعيد أو قريب؛ إذ مأربه الوحيد أن يتجنب الخطر المتربص به كل لحظة، فيحيا اللحظة بلحظاتها، ويبني حياته لا عن طريق أعمال يضعها فوق بعضها ليكون هرما شخصيا، ولكنه يبنيها إلى أسفل، يحفرها تحت الأرض كجحور متشعبة ملتوية معقدة كلما أحس في جحر منها بالخطر فر وانطلق يكون جحرا آخر، وغاية وقتية سفلية هروبية أخرى، إنه يعرفك ويقيم معك الصداقة أو الزمالة إمعانا في الهرب منك، ويجاذبك أطراف الحديث ليلهيك عن نفسه، وينافقك أو يصنع معك المعروف؛ لكي يرشوك، ويتزوج كي يهرب من مسئولية عدم الزواج، ويعمل في قومسيون طبي المحافظة لكي يفر من البوليس والمباحث، حتى ولو كان الفرار إلى قلب البوليس، وهو لإدراكه أنه محاصر بالجنس الخطر في كل زمان ومكان يواجهه وحيدا، إذا صرخ أو استغاث فلن يخف أحد لنجدته، بالعكس سيدركون جميعا أنه وقع ويلتهمونه حيا؛ لهذا فاعتماده الكامل على نفسه هو أصدق أصدقائه، وصدره أنسب مكان لأسراره، وعليه أن يعمل جاهدا لكي يبقى أكبر جزء من نفسه، بل كل نفسه ورغباته وحذره وخوفه بعيدا جدا عن الأنظار، داخل نفسه، وعليه أيضا ألا يبدو وكأنه يخفي شيئا، حبذا لو بدا كثيفا لا يظهر منه شيء على الإطلاق! حبذا لو احتوى كل دنياه داخله، واختفى بكل ما يحتويه عن الدنيا! كائن غريب ليس له نفسية المجرم مثلا، فهو لا يكره الناس أو يحقد عليهم، ولا يريد أن يؤذي أحدا، أو حتى كالمعقور المصاب بداء الكلب البشري همه أن يعقر الآخرين، أبدا، همه فقط أن ينجو، وإذا اضطر لإيذاء أحد فهو يفعلها بخبث شديد ويختار بعناية تامة ضحيته، ولا يفعلها انتقاما أو ليخيف بها أحدا ممن يحيطونه من المردة والجن، ولا حتى يقوم بالإيذاء دفاعا عن نفسه كما يفعل أي مجرم، إنه يؤذي فقط لكي يموه على من حوله من جان وكلاب، ويثبت لهم أنه جني هو الآخر، ليتنكر في زي الشياطين عسى أن ينجح في إخفاء حقيقة نفسه عن الأنظار، تلك الحقيقة التي لا يعرفها سواه، آه لو عرفوها! آه لو أدركوا رغبته العارمة في البقاء حيا! رغبة أكبر من رغباتهم مجتمعين، رغبة عارمة في الحياة يؤرقها دائما الخوف الهائل المجنون من الأحياء.
ذلك هو الكائن الذي خرج من السجن وله نفس الاسم «شوقي»، الكائن الذي له كل مظاهر البشر، وفي قرارة نفسه لا يمت بصلة إلى البشر، بل يستعمل عقله البشري وكل ما منحته الحياة للإنسان من مزايا ليفر من البشر، ليبعد، ليختلف جذريا عنهم، ليبذل طاقات خارقة كي يعمق هذا الاختلاف بمثل ما يبذل من طاقات خارقة أخرى كي يخفيه، وكي يبدو في الظاهر أكثر شبها بغيره من الناس، وأقرب إلى البشر من البشر نفسهم.
من حقكم أن تسألوني كيف عرفت، وكيف وصلت إلى حقيقة شوقي واكتشفتها هكذا؟ ولن أبالغ وأدعي أني أدركت كل هذا بنفسي ومجهودي؛ فصحيح أنني بذلت جهدا خلال معرفتي الطويلة به كي أخمن أشياء وأبحث وراء المعاني المختفية لكلماته، وأدقق في تصرفاته التي كانت - مهما أجاد في إضفاء الأقنعة الطبيعية عليها - تتناقض أحيانا وتتضارب وينتج عن تضاربها شرارات تضيء وتدفع المهتم إلى الاستقطاب والتنقيب وجمع الدلالات والخروج بنتائج.
صحيح كان شيء كثير من هذا قد حدث، ولكن الصورة لم تكتمل في خاطري، ولم أبدأ أدرك وأعي أني كنت في ظنوني وتخميناتي على حق، إلا عن طريق لم يحدث أن خطر ببالي أبدا، من مصدر لم يكن بينه وبين شوقي أدنى صلة، فهل يمكن أن يتصور أحد أن توجد صلة بين الدكتور شوقي وبين «نور» زوجة عباس محمود الزنفلي، أو على وجه أصح ما روته نور عن عباس؟ أيمكن أن يتصور أحد أنه خلال قصة تحكيها عن زوجها تبدأ الخيوط المهملة في ذهني والناقصة والمنسية تتكامل وتنتظم وتتضح، بحيث ما إن تنتهي حتى أكون قد وصلت إلى التصور الكامل لذلك الكائن غير البشري الذي أصبحه شوقي؟!
Неизвестная страница