ويجوز أنه نظر إلى الدعوة النامية نظرة حكمة وسداد، فأبى أن يناهض صاحبها وهو موشك أن يسود الطريق بين الحبشة ودولتي الفرس والروم، وأن يشرف على مسالك التجارة بين أقطار العالم المعمور.
وعلى كلتا الحالتين ليس هو بالعون لعمرو في تربصه بالإسلام وكيده لنبي الإسلام من قريب ومن بعيد!
وليس عمرو - في حيطته العملية - بالذي يحارب قضية تؤيدها هذه الطوالع في بلادها وغير بلادها، ولا هو بالذي ينصر قضية لقريش قد خذلتها هذه الخواذل، وحلق بها الفشل من نواحيها، وذهبت مولية تمعن في توليها ولا تؤذن بإقبال ...
هنا تفتح الحيطة سبيل التأمل والتفكير ...!
ومن دأب أصحاب هذه العقول أنهم يستنفدون أسباب الحيطة أولا، ثم يتأملون ويفكرون، فلا يمنعهم مانع أن ينفذوا إلى اللباب، وأن يدركوا ما هم أقدر على إدراكه من الآخرين، لولا ما كان يعوقهم من طبيعة التربص والانتظار، وإذا أدركوا فهم كذلك إنما يدركون على ديدن الحيطة والموازنة بين الأمور والمقابلة بين طريق وطريق ... فما باله لا يفكر في هذا الإسلام الذي لبث من قبل معرضا عنه مصرا على إبائه؟
ألا يجوز أن يكون خيرا وأبقى؟ بلى هو خير وأبقى؛ لأنه يكفل حياة الدنيا والآخرة، ويعوض العرب عن ضنك العيش، فلا تكون قسمتهم دون قسمة الفرس والروم، وهم أصحاب العيشة الرخية في هذه الحياة الدنيا.
ففيه مرضاة للعزة العربية ومرضاة للحيطة، ومنفس للأمل فيما بعد الموت، وفيه المحيص حيث لا محيص.
أيفهم من هذا أن عمرا لم يسلم عن يقين وخلوص نية؟
كلا! بل يفهم منه أنه أسلم كما ينبغي لصاحب هذه الطبيعة أن يسلم أو يؤمن بعقيدة من عقائد الفكر والروح.
فالإسلام لا يمنع اختلاف الطبائع وأساليب التفكير، ولا يستلزم أن يكون طريق الناس إلى فهم العقيدة واحدا لا تفاوت فيه.
Неизвестная страница