قد يفوتني أسماء أخرى معروفة. وقد يكون ثمة سيدات كثيرات ذكيات قديرات من اللاتي يدمجن في «الطراز القديم» وقد يدهشن العالم والمحنك بأسلوب إدارة بيوتهن وأعمالهن وأملاكهن لوفرة ما يبدين من الخبرة والدراية - حتى ولو كن أميات. ولكن أيكون لمثل عائشة من مثيلاتهن بيئة معنوية؟
بيئتها
لم يكن للشاعرة من بيئتها الاجتماعية البيئة المعنوية المطلوبة. ولا أظنها نعمت من ذلك العصر بما نحن اليوم نفتقر إليه.
ما سمعت أديبا يذكر أهمية المحيط ومبلغ تأثيره إلا سمعت منه الشكوى. ما حدثني مطلع على شئون الشبان العائدين من أوروبا إلا قال إنهم بعيد وصولهم يشعرون بنقص علمي عظيم حولهم، ولا يلبثون أن يفهموا أنهم عائشون في وحدة فكرية وفنية بعيدا عن تواصل الحركة الذهنية في العالم. ولا يعرف مرارة تلك الوحدة وصقيعها إلا الذي أرغم على تقطيع الأعوام والأعوام تبليه في انفراد ووحشة. لا يعرفها إلا الذي صرف الأيام والليالي جائعا عطشا، وهو يعلم أنه في قفر لن ينبت له في القريب العاجل قوتا ولن تفجر له منه المفاوز منهلا.
حال محزنة حال التأنق إلى ما يعلو على العيشة الملامسة الثرى. حال محزنة حال الأديب الصميم في عصرنا والمتأدب. إنه سرعان ما يتصدى له من يناقض ويعاكس ويتمطى ليقدم له ويؤخر، ويفصل في قماشه ويخيط، وسرعان ما ينبري له وللعالمين من يقدح ويهجو لسبب أو لغير سبب، أو لسبب جدير بالتقدير. وسرعان ما يسمع المدح المائع المتهدل لا اعترافا بالأهلية، بل عن هوس ، أو حمق، أو لغاية. وقد يجد من يمتدح بإخلاص ولكن ببلاهة فيجعل الذبابة فوق النسر، أو يسيرهما في فلك واحد فإنهما يطيران وكلاهما من «ذوات الأجنحة».
5
أما تجانس الخواطر، وحب الآداب، وسعة الإدراك في تحليل الأشياء وتقديرها، والإحكام في وضعها وتربيتها، والغوص في المعاني الواسعة، وفهم مناحي الحياة والعناية بخصائصها كما هي لا كما يراد حصرها في شخصية واحدة؛ كل تلك الغبطة المعنوية التي نطلبها بأشواقنا ولا نحسن التعبير عنها، فليست بعد لنا. وهي مفقودة في هذه البلاد. بل ندر الذين يفهمون ارتفاعها ونبلها من الأفراد.
وأولئك هم المعذبون.
وستبقى هذه الحياة مفقودة ما بقي التعاطف الأدبي غير موجود. وإذا طرح اليوم متحمس النداء المستثير فكأنه يستنهض أنبتة تضطرب وتتحرك في مكانها وقد حظر عليها الخطو والانتقال. وتمضي الصيحة الرجافة فترتطم نبراتها في الهواء ثم ترتد على مرسلها ثقلا باهظا كأنما يتعرضها المضي جدار كثيف تختنق عنده الأصداء فترتد على قلب مرسلها ثقلا يجر معه معاني المحال وانقطاع الرجاء - إلى حين.
والمدهش بعد كل هذا أن نجد منها من يشب وينهض ويتفوق. يتفوق ليس على قياس مدح المداحين، وهجو الهجائين، ومسيري الذبابة والنسر في خط واحد. بل هو يرتفع رغم المثبطات فوق الصدمات والموانع ...
Неизвестная страница