قال: «أترى على الرمل أثرا لمشاة أو فرسان؟ وهل تستطيع تحقق ذلك على ضوء القمر؟»
قال: «نعم يا مولاي.» ونزل عن راحلته وجعل يتفرس في رمال الطريق كأنه يقرأ كتابا ومحمد بالقرب منه يراقب حركاته، فرآه يتنقل بخفة ولباقة فلا يضع قدمه إلا حيث يرى أنها لا تفسد أثرا سابقا، وما زال يروح ويجيء وهو يتفرس ويعد ويحسب ويقيس بأشباره وأصابعه ويراقب جهة الأقدام أو الخفاف أو الحوافر، ومحمد يعجب لما يبدو من خفته وحذقه حتى كاد يمل الانتظار، وأدرك مسعود قلقه فقال وهو لا يزال يتفرس في الرمال: «لا تضجر يا مولاي من طول الانتظار، فإني أرى ارتباكا في الركب الذين مروا من هذا المكان وكأنهم وقفوا فيه برهة يروحون ويجيئون وربما تضاربوا وتقاتلوا، فاصبر قليلا إن الله مع الصابرين.» وعاد مسعود إلى عمله وهو يجلس القرفصاء ويحني رأسه يتفرس في الرمال حتى يكاد يلامس وجهه الأرض، وقضى في ذلك ساعة ومحمد كأنه واقف على الجمر، وربما خيل إليه لعظم قلقه أن الليل قد انقضى. وفيما هو في ذلك رأى مسعودا وقد انتصب بغتة وتحدب وتمطى كأنه تعب من القرفصاء والانحناء ومشى إليه، فتقدم محمد نحوه وقال: «ماذا رأيت يا صاح؟»
قال: «إن الآثار تشابهت علي لاختلاطها، ومع هذا علمت أنها آثار قافلة صغيرة مؤلفة من بضعة جمال بينها جملان يسيران متواليين كأنهما يحملان هودجا، ومعهما مشاة من الرجال أكثرهم يحملون رماحا لأني أرى آثار كعابها بجانب الأقدام، ويظهر أن القوم وقفوا هنا وترددوا في المسير واختل نظامهم. وقد يكونون تخاصموا أو تقاتلوا، يدلك على ذلك ما في آثار أقدامهم من الارتباك مع كثرة الأبعار المتجمعة، ثم بدا لي أنهم اتفقوا أخيرا على سلوك هذا الطريق.»
قال محمد: «وإلى أين يؤدي؟» قال: «يؤدي إلى البصرة أو الكوفة.»
فسكت محمد وقد رجح لديه أنهم هم الركب الذين رآهم في ذلك الليل عن بعد، فأعمل فكره وحدثته نفسه أن يتبع الآثار ولكنه خاف أن يشغله ذلك عن المهمة التي جاء بها إلى مكة، فوقف صامتا يتردد بين أن يطلع مسعودا على سر الأمر وبين أن يظل على كتمانه، فتحير في أمره ثم سأله بغتة: «وما ظنك يا مسعود بالزمن الذي مر على مسيرهم؟»
قال: «أظنهم مروا في أوائل الليل منذ أربع ساعات أو خمس، وهم سائرون على عجل.»
فقال: «وهل تظننا ندركهم إذا اقتفينا أثرهم؟»
قال: «إذا ظلوا هم على مسيرهم لا إخالنا ندركهم قبل يومين أو ثلاثة.» قال ذلك وقد مل من تكتم محمد الغرض من هذا البحث، فأراد استطلاع السر فقال: «هل يرى مولاي أن يطلعني على ما أهمه من هذا الركب لعلي أستطيع أن أحسن خدمته؟»
قال: «يهمني يا مسعود من هذا الركب أمر كبير، هل تعرف خادمتنا العجوز التي كانت في المدينة؟» قال: «نعم أعرفها».
قال: «إنها جاءت مع فتاة أموية إلى مكة وأقامت عند أختي أم المؤمنين، فلما أجمع أهل مكة على المسير إلى البصرة جاءهما أناس بكتاب مزور على لساني يدعونهما إلى المدينة فسارتا معهم في غروب هذا اليوم، ولا أدري من تجرأ على هذا الفعل، ولا إلى أين ساروا بهما، ولكن يظهر مما بينته قيافتك أنهم هم الركب الذين مروا بهذا المكان.»
Неизвестная страница