شخصيات الرواية
مراجع رواية عذراء قريش
1 - سر ذاهب إلى القبر
2 - عثمان بن عفان
3 - نائلة بنت الفرافصة
4 - الفتنة وأسبابها
5 - أسماء ومحمد ومروان
6 - أسماء في دار الخليفة
7 - مقتل عثمان
8 - مبايعة علي بالخلافة
Неизвестная страница
9 - المطالبة بدم عثمان
10 - طلحة والزبير
11 - عبد الله بن عباس
12 - الفتنة والحرب
13 - أسماء في الأسر
14 - عود إلى السر
15 - وقعة الجمل
16 - معاوية وعمرو بن العاص
17 - أسماء في السجن
18 - موقعة صفين
Неизвестная страница
19 - الهدنة والتحكيم
20 - حكم الحكمين
21 - عمرو يعود إلى القاهرة
22 - مقتل محمد بن أبي بكر
شخصيات الرواية
مراجع رواية عذراء قريش
1 - سر ذاهب إلى القبر
2 - عثمان بن عفان
3 - نائلة بنت الفرافصة
4 - الفتنة وأسبابها
Неизвестная страница
5 - أسماء ومحمد ومروان
6 - أسماء في دار الخليفة
7 - مقتل عثمان
8 - مبايعة علي بالخلافة
9 - المطالبة بدم عثمان
10 - طلحة والزبير
11 - عبد الله بن عباس
12 - الفتنة والحرب
13 - أسماء في الأسر
14 - عود إلى السر
Неизвестная страница
15 - وقعة الجمل
16 - معاوية وعمرو بن العاص
17 - أسماء في السجن
18 - موقعة صفين
19 - الهدنة والتحكيم
20 - حكم الحكمين
21 - عمرو يعود إلى القاهرة
22 - مقتل محمد بن أبي بكر
عذراء قريش
عذراء قريش
Неизвестная страница
تأليف
جرجي زيدان
شخصيات الرواية
عثمان بن عفان:
ثالث الخلفاء الراشدين.
علي بن أبي طالب:
رابع الخلفاء الراشدين.
عائشة أم المؤمنين:
زوجة النبي
صلى الله عليه وسلم .
Неизвестная страница
نائلة بنت الفرافصة:
زوجة الخليفة عثمان.
محمد بن أبي بكر الصديق:
أخو عائشة.
عذراء قريش:
أسماء بنت مريم.
مريم أم أسماء:
من سبايا فتح مصر.
مروان بن الحكم:
ابن عم عثمان بن عفان.
Неизвестная страница
معاوية بن أبي سفيان:
أول ملوك الدولة الأموية.
عمرو بن العاص، أبو موسى الأشعري:
الحكمان في الخلاف بين علي ومعاوية.
مراجع رواية عذراء قريش
هذه المراجع هي التي اعتمد عليها المؤلف في تأليف الرواية ووقائعها التاريخية:
معجم ياقوت.
السيرة الحلبية.
قاموس الإسلام.
صفوة الاعتبار.
Неизвестная страница
أسد الغابة.
الأغاني للأصفهاني.
العقد الفريد.
تاريخ الخميس.
صحيح البخاري.
مراصد الاطلاع.
نهج البلاغة.
كتب تاريخ: ابن الأثير - المسعودي - الدميري - أبو الفداء - ابن خلدون - ابن هشام.
الفصل الأول
سر ذاهب إلى القبر
Неизвестная страница
«قباء» قرية على بعد ميلين من المدينة المنورة «يثرب»، اشتهرت بعد الهجرة بنزول صاحب الشريعة الإسلامية بها في أثناء هجرته إلى المدينة وبنائه فيها مسجدا هو أول مسجد في الإسلام.
وكانت قباء قد اشتهر أمرها وعرفت بمكانة مسجدها في خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبعد اتخاذ المدينة عاصمة، وقد عني الخلفاء بتحسين ذلك المسجد وبخاصة الخليفة عثمان، إذ وسعه وزاد فيه وخصص نفرا لخدمته. على أن ذلك لم يزد كثيرا في سكان قباء نفسها.
وكان لذلك المسجد في أواخر خلافة عثمان خادم طاعن في السن اسمه «عامر» شهد بناء المسجد، ورأى صاحب الشريعة يوم نزل هناك وأمر ببنائه، فأقام عامر بقباء هو وعياله، يقضي نهاره في خدمة المسجد وتنظيفه، فإذا فرغ من ذلك خرج بأولاده يرعى إبل أحد أغنياء المدينة في بعض الأودية الكثيرة في تلك المنطقة.
ففي مساء يوم من أيام سنة 35 من الهجرة خرج الشيخ لرعاية الإبل فأوغل في بعض الأودية حتى اقترب الغروب، فأسرع بالرجوع راكبا ناقته وقد أرخى لها الخطام، وأخرج مسلة مغروسة في شعر رأسه المتلبد ووخز بها الناقة بين جنبيها استحثاثا لها على المسير فطارت به. وكان أولاده يتبعونه على بقية النوق، وقد ركب أصغرهم ناقة عارية، ووضع آخر أمامه على ناقته أخشابا جمعها من غصون الشجر المتساقطة ليوقدوا نارهم بها، وكانت النوق كلها مطلقة الزمام. والشيخ أعجل الجميع خشية أن تغيب الشمس ويحين وقت صلاة المغرب قبل وصوله، ورأى الشمس كأنها تسرع في الغروب فخيل إليه أنها تسابقه فجعل يستحث ناقته، غير عابئ بجمال الصحراء في تلك الساعة، إذ امتدت الظلال حتى اختلط بعضها ببعض فلم يفرق بين ظلال النخيل وظلال غيرها من الشجر وبين ظلال الآدميين. وكذلك غفل الشيخ لعجلته ولهفته عن الشذا المنبعث من نبات الصحراء، ولم يستوقف سمعه شدو الطيور ولا نقيق الضفادع. على أنه لم يكد يشرف على قباء حتى سمع رغاء الجمال وصهيل الخيل، ولما قارب المسجد رأى هناك ركبا معهم الجمال والأحمال فلم يستغرب ذلك إذ تعود أن يرى كثيرا من أمثاله كل عام، لأن القوافل كانت تمر بقباء في طريقها إلى المدينة فتقف للراحة والاستقاء، فازداد رغبة في العجلة ليقوم بخدمة القادمين، والتفت خلفه ونادى أحد أولاده وقال له: «أسرع إلى البيت وعد إلي بجرة الماء لعل في الركب من يحتاجون إليه.» •••
وظل الشيخ مسرعا، وكلما اقترب من المسجد وتوقع أن يتبين الوجوه حجبها عنه تكاثف الشفق، حتى وصل فإذا الركب بضعة رجال وفتاة ومعهم خيل وجمال، وقد تجمعوا بحنو ولهفة حول هودج عليه الأستار وفيه مريض يحاولون إخراجه إلى مقعد في خيمة نصبوها بالقرب منه. وما إن استخبرهم حتى علم أنهم قادمون من الشام إلى المدينة، فعجب لمرورهم بقباء وهي ليست في طريقهم إليها. ونظر إلى كبيرهم فإذا هو كهل عليه لباس عرب الشام من القباء والرداء والعمامة، وبجانبه شاب حسن البزة عليه عباءة من الصوف وسيفه مرصع، ووراءه خادم يحمل له الرمح والنبال، وعلى مقربة منهما فتاة غضة الشباب مشرقة ممتلئة صحة ونشاطا على رأسها عقال، وزاد في إشراق وجهها ما اكتسبه من التورد على أثر التعب وركوب الجواد أياما في الصحراء. فلما رآها الشيخ استرعى انتباهه ما آنسه فيها من شدة الاهتمام بأمر المريض، ورآها ترشدهم كيف يحملونه وينقلونه ويعتنون به. فترجل الشيخ عن ناقته وصاح: «أهلا بوجوه العرب»، ثم تقدم لمساعدتهم وتفرس في المريض فإذا هو امرأة في حدود الأربعين قد بلغت منتهى الضعف حتى يحسبها الناظر إليها ميتة. وأشارت إليه الفتاة ألا يدنو من المريضة لأنهم يريدون حملها بأنفسهم، فتنحى وأمر أولاده أن يساعدوا الخدم في نصب الخيام وإنزال الأحمال وسقي الجمال والخيل وغير ذلك، وسار هو إلى المسجد للأذان والصلاة.
واستمر الرجال في نقل المريضة، وكانت الفتاة واسمها «أسماء» لا تني في إعداد كل وسائل الراحة لها، ولا عجب فالمريضة أمها وقد شبت على حبها. أما الكهل فزوج المريضة واسمه «يزيد»، وكان قليل العناية بأمرها إلا بما توحيه إليه الفتاة. وأما الشاب فاسمه «مروان»، وكان الزهو ظاهرا في وجهه لقرابته من الخليفة عثمان بن عفان.
ولما حملوا المريضة إلى فراشها، جلست أسماء بجانبها وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهها وهي غائبة عن الصواب، وكانت الدموع تملأ عيني الفتاة ولكنها كانت تتجلد لئلا يغلبها البكاء فتسمعه أمها فيزداد تألمها، وكانت تمسح دموعها خلسة ونظرها لا يتحول عن وجه المريضة لحظة.
ولما أرخى الليل سدوله جاءهم عامر بمصباح أدخلوه الخيمة، والفتاة لا تفتأ تنظر إلى أمها لعلها تفتح عينيها أو تحرك شفتيها أو تلتمس أمرا فتقدمه لها، غير عابئة بالكهل زوج أمها ولا بذلك الشاب الذي قطع البراري والقفار في خدمتها عساه أن ينال حظوة في عينيها. وكان الشاب قد طلب الاقتران بها منذ كانوا في الشام، فلم ترض به هي ولا أمها وإن رضي به يزيد رغبة في الدنيا وطمعا في منصب يناله، ولم يكن يعطف على الفتاة لأنها ليست ابنته ولا يعرف لها أبا، إذ كانت أمها حين تزوجها سبية من سبايا مصر يوم فتحها عمرو بن العاص سنة 18 للهجرة، وكانت هي في الثانية من عمرها حينذاك، وبعد فتح الإسكندرية عاد بهما إلى الشام فأقام فيها مع ذوي قرباه من بني أمية.
وكان يزيد كهلا أشيب الشعر، قصير القامة، خفيف العضل، متجعد الوجه، غائر العينين، يحب المال حبا جما، وكان إلى ذلك سيئ الخلق. واعتقد أهل الشام أن أسماء ابنته، وإن عجبوا لاختلافهما خلقا وخلقا، فقد كانت على جانب عظيم من المهابة والجمال، جمعت بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، وكان الناظر إليها لا يسعه إلا أن يحترمها، فإذا خاطبها آنس منها رقة وأنفة ودعة وأريحية. وكانت ربعة ممتلئة، حنطية اللون، سوداء العينين حادتهما، طويلة الأهداب، مقرونة الحاجبين، دقيقة الفم، سهلة الجبين، تغضي العيون مهابة التفرس في وجهها. اشتهرت بين أهل الشام بكل خلق حسن، وأحبها مروان وجعل يتقرب منها وهو يحسب تقربه منة وكرما، وأنها لا تلبث أن تطير فرحا لأنها من عامة الناس وهو ابن عم الخليفة عثمان. وكان الخليفة يؤثر ذوي قرباه من بني أمية ويقدمهم في مناصب الدولة ويفتح لهم أبواب الرزق، الأمر الذي أدى إلى قيام المسلمين عليه حتى تحدثوا في عزله وكانت الفتنة المشهورة. وظل مروان يتردد على منزل يزيد وكلاهما من بني أمية، فيحتفل يزيد به ويود لو يتزوج أسماء فيحظى من الخليفة بمنصب، فلما خاطبه مروان في ذلك أكد له أنه نائل الفتاة لا محالة، اعتمادا على أن القول قوله في أمر زواجها.
ولكنه ما إن خاطب امرأته في الأمر حتى رأى منها إعراضا وإباء، وكلما ألح بشدة عليها راحت تماطله. وأدركت الفتاة ما بينهما من أجلها فاشتد نفورها من مروان، لأنها لم تكن تعتد بزخارف الدنيا ولكنها كانت تهوى الشهامة وكرم الأخلاق، فلم يقع مروان من نفسها موقع القبول. ولما ازداد إلحاح يزيد خشيت الأم أن يستعمل العنف في تنفيذ مأربه واستولى عليها القلق حتى نزل بها الداء ووهنت قواها فخافت الموت، وطلبت أن تحمل إلى المدينة على أن تجيب طلب مروان هناك.
Неизвестная страница
وسر بذلك مروان إذ حدثته نفسه بأنه إذا جاء المدينة كان بالقرب من ابن عمه الخليفة عثمان، فلا تعود الأم إلى التردد خشية غضبه. وكان السفر سببا في اشتداد مرض الأم وأسماء لا تعلم سر ذلك الانتقال حتى خلت ذات يوم إلى أمها وعاتبتها على ما حملت نفسها من المشقة، فأسرت هذه إليها أنها تنوي الاستجارة بعلي بن أبي طالب لعله ينقذها لما اشتهر به من إغاثة المظلومين، ولما له من المكانة عند الخليفة والمسلمين.
وما زال المرض يشتد بالأم يوما بعد يوم، وزوجها ومروان يودان لو قضت نحبها قبل الوصول إلى المدينة لأنهما عرفا شيئا عن حقيقة غرضها، فكانا يطيلان مدة السير ويقودان القافلة في طرق طويلة حتى مروا بقباء وهي في الجنوب الشرقي من المدينة. •••
كانت الأم المريضة - واسمها «مريم» - بيضاء، تحبو إلى الأربعين من عمرها، رومانية الملامح، كبيرة العينين، وقد زادهما الضعف جحوظا، وكانت منذ نقلوها إلى الفراش في سبات عميق وأسماء بجانبها تمرضها ولا تأذن لأحد أن يأتي بحركة لئلا يزعجها. ولكنها لخوفها على أمها لم تكن تستطيع النظر إلى ذلك الوجه الممتقع وتينك العينين الغائرتين والعنق المستدق وقد غطاه من الجانبين شعر أسود يخالطه بعض الشيب بلله عرق الحمى فتجمع خصلا متلاصقة. وأشد ما كان يخيفها أن صدر أمها كان غائرا لفرط الضعف، وأن فمها اتسع واستطال حتى برز فكاه، فلم تكن أسماء تتأمل في ذلك المنظر حتى يختلج قلبها وتخاف الموت على والدتها في تلك البرية. وكلما أمسكت بيدها لتعرف مدى حرارتها أحست العرق البارد يبلل أناملها، ومما زادها بلاء وشقاء أن يزيد ما برح منذ نزولهم معتكفا في خيمة مروان، ولا يدخل خيمة امرأته إلا قليلا، متظاهرا بالاهتمام بها، بينما المكر والرياء ظاهران في وجهه. وأما مروان فكان إذا دخل الخيمة دخل متبخترا لا يدنو من الفراش ولكنه ينظر إلى أسماء ويبتسم كأنه يداعبها، وهي لا تستطيع الابتسام ولا تطيق النظر إليه.
فلما كان العشاء حركت النائمة رأسها وفتحت عينيها وحولت حدقتيها إلى أسماء وقد بهتتا من شدة الضعف، فهبت الفتاة واقفة وسألتها عما تريد، فأشارت تطلب الماء فأسرعت إلى القدح وأدنته من شفتيها فشربت منه قليلا، وانبسطت لذلك أسارير أسماء وعاودها الأمل، ووقفت تنتظر ما تطلبه منها، فلما لم تقل شيئا انحنت على جبينها وقبلته وأمسكت يدها بلطف وقالت لها: «هل تريدين شيئا يا أماه؟»
فأجابتها بصوت ضعيف وعيناها شاخصتان إليها: «لا، لا أريد شيئا إلا سلامتك، ولكنني قد لا أستطيع الوصول إلى المدينة، ولا أظنني أعيش إلى الغد فقد شعرت بدنو الأجل.» قالت ذلك والدموع تتساقط من عينيها فتختلط بعرقها، فاقشعر بدن أسماء وخفق قلبها، ولكنها تجلدت وتظاهرت بالابتسام وقالت: «لا سمح الله بسوء يصيبك يا أماه! فإنك ستصبحين في خير فنركب معا إلى المدينة بإذن الله.»
فتبسمت الأم تبسما يمازجه البكاء، وقالت: «اسمعي يا بنيتي، ما أنا آسفة على هذه الدنيا، ولكن في نفسي أمر أود قضاءه قبل الوفاة.»
قالت أسماء: «وما هو ذلك الأمر يا أماه؟»
قالت: «هو أن ألتقي بعلي بن أبي طالب فأكلمه دقيقتين قبل الموت.»
قالت: «غدا نلتقي به في المدينة.»
قالت: «قلت لك إنني لا آمل أن أرى صباح الغد يا بنيتي.»
Неизвестная страница
فهمت أسماء بتقبيلها وهي تحاول حبس الدمع، فضمتها مريم إلى صدرها بقوة لم تكن أسماء تعهدها فيها وعانقتها، فتساقطت دموع أسماء برغم إرادتها ثم أحست بدموع أمها تتساقط على عنقها سخينة تمازج ذلك العرق البارد، وأشفقت بعد ذلك عليها فنهضت وتجلدت وقالت: «لا بأس عليك يا أماه! فهل تطلبين عليا لتكلميه في شأني؟»
قالت: «نعم، وفي شأن آخر هو سر حرصت على كتمانه أعواما، وقد آن لي أن أبوح به.»
فقالت: «ما العمل إذن؟» قالت: «استقدموه إلي، قولوا له إن امرأة على فراش الموت تلتمس لقياك لتنبئك سرا وتشكو إليك أمرا.»
فخرجت أسماء إلى صحن الخيمة فرأت يزيد ومروان واقفين بإزاء نخلة كأنهما يتساران، فلما رأياها أسرعا معا وقالا: «كيف حال أمك؟ لعلها في خير»، قالت: «إنها أفاقت وطلبت أن ترى عليا بن أبي طالب.»
قال يزيد: «وكيف تراه الآن وهو في المدينة؟»
قالت: «لقد طلبت استقدامه إليها بإلحاح.»
قال مروان: «استقدامه؟! ومن يستطيع ذلك؟!»
قالت: «لا أراه يأبى المجيء إذا قيل له إن امرأة تحتضر تلتمس مقابلته، فإنه على خلق عظيم.»
قال: «لا شك في عظم خلقه، ولكنه الآن في شغل شاغل بأمر المسلمين واختلافهم في شأن الخليفة!»
ولما لاحظ استغرابها ما ذكره، أخذ في توضيح الأمر فقال: «سمعت قبل خروجنا من الشام أن أهل الأمصار ناقمون على عثمان إيثاره ذوي قرابته فيولي العمال منهم ويعزل الذين ولاهم أسلافه، كما علمت أن أهل مصر خرجوا يلتمسون المدينة ليشكوا أمرهم إلى علي لعله يحكم فيما بينهم وبين عثمان، وكذلك أهل البصرة وأهل الكوفة. وأظنهم وصلوا إلى المدينة الآن، فلا يستطيع علي تركهم والمجيء إلى هنا.»
Неизвестная страница
قالت وقد ملت الجدل: «إن أمي تطلب عليا بإلحاح فما علينا إلا أن نبعث في طلبه.»
قال: «سأرسل في ذلك أحد رجالي، ثم أذهب أنا في أثره أستعجله.» قال ذلك وأمر أحد الأتباع بالذهاب إلى المدينة، ثم ذهب هو على أثره.
عادت أسماء إلى والدتها فإذا هي في غيبوبة، فمكثت ساعة في انتظار الرسول، ولما استبطأته خرجت من الخيمة وتوجهت بنظرها إلى المدينة والظلام حالك فلم تر أحدا، فصعدت إلى مرتفع أشرفت منه على أبنية المدينة فلم تر منها إلا المسجد النبوي والأنوار تشعشع في بعض جوانبه. ولو أنها لم تصعد إلى ذلك المرتفع ما استطاعت رؤية المدينة، لأنها قائمة في منبسط من الأرض تحدق بها جبال تنحدر منها السيول على أثر الأمطار، فيصبح السهل المجاور لها مستنقعات وآبارا تجتمع فيها المياه على مدار السنة، وتنمو حولها أشجار الصفصاف والبيلسان والنخيل وكثير من الأعشاب. فلما أطلت أسماء على المدينة راعها منظر ما بينها وبين قباء من المياه المتجمعة التي انعكست على سطحها أشعة الكواكب، غير أن ذلك لم يكن ليشغلها عن مرض والدتها فعادت مسرعة إلى الخيمة، فرأت أن يزيد قد توسد الأرض خارج الخيمة ونام، فأسفت لما رأت من فقده المروءة والشعور، ولكنها لم تستغرب ذلك لأن أمها كانت قد قالت لها غير مرة إن هذا الرجل ليس أباها، ولكنها كتمت عنها اسم أبيها وظلت تعدها بأن تنبئها به. فلما رأت ما بلغته والدتها من الضعف في تلك الليلة خافت إن أصابها سوء أن يبقى أبوها مجهولا عندها، فدنت من فراشها وهي ما برحت غائبة، فأمسكت يدها الباردة ولمست جبينها المبلل بالعرق فاضطربت جوارحها وخافت على والدتها في ذلك القفر، واستنكفت أن تخاطب يزيد في الأمر احتقارا له، فهمت بالخروج لاستقدام خادم المسجد لعلها تجد عنده امرأة تستأنس بها، فرأت أمها تحرك رأسها وترفع يدها كأنها تشير إليها أن تدنو منها، فدنت وهمت بها فقبلتها وقالت: «ماذا تريدين يا أماه؟»
قالت: «ألم يأت علي؟» قالت: «لم يعد رسولنا بعد.»
قالت: «أخاف ألا يعود وقد نفد صبري وخارت قواي، استقدموا عليا قبل فوات الفرصة.»
فقالت: «لا يلبث علي أن يأتي. ألا تبوحين لي بما تريدين أن تقوليه له، ألم يأن لي أن أعرف من هو أبي؟»
قالت: «ستعرفينه متى جاء علي» ثم تنهدت وقالت: «آه ...!» •••
فلما سمعت أسماء ذلك اشتد حزنها وقلقها ، ولا سيما أنها خشيت أن يكون ذهاب مروان في أثر الخادم سببا في تأخير قدوم علي، فعزمت على المسير بنفسها وهي لم تكن قد دخلت المدينة قبل الآن، ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل مرضاة أمها ورغبتها في استطلاع ذلك السر. فشدت عقالها حول رأسها وتلثمت حتى لم يبق ظاهرا من وجهها إلا عيناها، وتزملت بالعباءة فوق ثيابها فأخفت رداءها النسائي، وركبت جوادها وكان لا يزال مسرجا، وأيقظت يزيد وأوصته بوالدتها خيرا. وهمت بالخروج فلم يطاوعها قلبها خوفا على أمها فوقفت متحيرة، ثم تذكرت خادم الجامع فسارت إليه وكان قد فرغ من الصلاة، فسألته عن امرأته فقال: «هي في خدمتكم»، وناداها فجاءت فإذا هي عجوز ولكنها نشطة سمحة الوجه، فأوصتها بأن تساعد يزيد في السهر على أمها في أثناء غيابها. وخرجت ولم تخبر أمها لئلا تمنعها من الذهاب واتخذت أنوار المسجد النبوي قبلتها، وهمزت الجواد وكان من أصائل الخيل فجرى وهو تارة يغوص في منخفض وطورا يصعد على أكمة، وهي لا ترى شيئا لفرط قلقها واضطرابها إلا أشباح النخيل والبيلسان، حتى دنت من سور المدينة واهتدت إلى بابها فدخلت منه إلى أسواق ضيقة متعرجة لا يكاد يمر بها الجواد، ولكنها على ضيقها مزدحمة بالناس وأكثرهم من الغرباء، فعلمت أن ما قاله مروان صحيح. فسألت رجلا يبيع التمر عن منزل علي فدلها عليه وهو يحسبها رجلا، فهمزت الجواد وأسرعت فلم تبلغ باب المنزل حتى كبا جوادها فسقطت وكادت تلقى حتفها، ولكنها لم تبال بل نهضت وتلمست باب المنزل، ولم تكد تدركه حتى سمعت صريره فوقفت تنتظر فتحه، فخرج إليها شاب طويل القامة لم تتبين وجهه لشدة الظلام، وكان قد سمع كبوة الجواد فأسرع نحوه فرأى فارسه قد وقف وهو لا يزال ملثما، فاستقبله وسأل عن خبره وهو يظنه رجلا.
فقالت أسماء: «لعل مولانا عليا في المنزل؟» قال: «كلا، ليس هو هنا الآن، ماذا تبغي منه فإني أرى لهفتك وعجلتك؟»
قالت: «نعم، جئت في أمر مهم، ولكنني لا أقوله إلا لعلي نفسه .»
Неизвестная страница
قال: «إنه خرج في الغروب إلى المسجد، وقد مضت صلاة الغروب وصلاة العشاء ولم يعد، فهل تذهب معي للبحث عنه هناك؟»
قالت: «نعم، هلم بنا.»
ثم انطلقا وكل منهما يريد الوصول إلى باب المسجد ليرى وجه صاحبه على الضوء لعله يعرفه، وكان الشاب أكثر رغبة في ذلك لأنه استغرب صوت أسماء ولم يتبين شيئا من وجهها أو ثيابها. أما هي فمشت تقود جوادها وراءها حتى بلغا الجامع، فإذا هو مزدحم بالناس بين جاث وواقف ولم يبق به موقف لطفل، وكلهم صامتون وقد تكاثفت أنفاسهم وانبعثت من باب الجامع حرارة ممتزجة بروائح أجسامهم وأثوابهم، حتى لقد يشعر المار بالازدحام وإن لم ير الناس. فلما وصل الرفيقان إلى الباب واستنارا بمصابيح الجامع نظر كل منهما إلى زميله، فرأت أسماء رفيقها رجلا حسن اللباس يظهر من حاله أنه من الصحابة أو بعض أولادهم، أما هو فلم ير غير اللثام فاستغرب تلثمها ومنعه الحياء من التحري.
الفصل الثاني
عثمان بن عفان
وهمت أسماء بالدخول إلى الجامع فامتنع عليها لكثرة الناس وهيبة الاجتماع، فوقفت بالباب وهي على مثل الجمر، ووقف صاحبها إلى جانبها فارتاحت لما آنسته من رقة شعوره، وعلمت أن الدخول إلى علي يستحيل إذ ذاك. فلما دعاها إلى الاستراحة على البطحاء، وهي مقاعد من الحجر أو الخشب أنشأها عمر بن الخطاب خارج الجامع يجلس عليها الناس للاستراحة أو المحادثة أو المناشدة؛ لم تستطع أسماء جلوسا لعظم قلقها، ولكنها التمست مكانا تربط فرسها فيه إذا اضطرت لدخول الجامع، فأمر رفيقها غلاما ممن يلتقطون النوى في أسواق المدينة وهم كثيرون أن يمسك الفرس، فأمسكه وسار به إلى مرابط الخيل بين الأشجار هناك.
أما أسماء فنظرت إلى صدر المسجد، فرأت على منبره رجلا ربعة ليس بالطويل ولا القصير، حسن الوجه لولا ما عليه من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، وقد خضبها بالحناء، أسمر اللون، أصلع الرأس، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، وكان واقفا على المنبر وقد توكأ على سيف وأجال نظره في الحضور وهم بالكلام . فنظرت أسماء إلى رفيقها مستفهمة، فقال: «هذا عثمان بن عفان يخطب في الناس.»
فقالت: «لعل هذا الجمع من أهل المدينة؟» قال: «كلا، هم وفود أهل مصر والبصرة والكوفة، وقد جاءوا يشكون عثمان ويتذمرون من أعماله، وقد شكوه من قبل هذا إلى علي بن أبي طالب فأنبه علي، فدعاهم إلى المسجد ليخطب فيهم، وأظنه سيلتمس لنفسه عذرا، فلنسمع ما يقوله.»
فنظرت أسماء إلى الخليفة وعيناها لا تقفان عليه لتضعضع حواسها، فرأت بجانبه رجلا عرفت أنه مروان فقالت في نفسها: «بئس الشاب هو! لقد جاء إلى ابن عمه ونسي المهمة التي جاء فيها.» وجالت بنظرها في الجمع متفرسة لعلها ترى عليا، غير أنها لم تكن تعرفه فقالت لرفيقها: «ألا ترى عليا بين الناس؟» قال: «أظنني رأيته، نعم، أراه جالسا بقرب المنبر وقد أطرق يفكر.» فنظرت إليه فإذا هو فوق الربعة، ضخم العضل، جميل الخلقة، وقد خطه الشيب فلم يخضب شعره. وآنست منه على شدة هواجسه ابتساما ظاهرا في وجهه، فشعرت عند رؤيته بارتياح واستأنست بطلعته وحدثتها نفسها أن تخترق الجماهير إليه فأوقفها الحياء، ولبثت تنتظر انتهاء الخطيب من خطابه وهي في قلق شديد.
وانتصب عثمان ويمناه على السيف وهي ترتعش لعظم تأثره، ثم مسح لحيته بيساره ومشط شعرها بأصابعه والاضطراب ظاهر عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: «يا أهل الأمصار، قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي، فإن صاحبي اللذين توليا قبلي (يريد أبا بكر وعمر) قد ظلما أنفسهما، وإن رسول الله
Неизвестная страница
صلى الله عليه وسلم
كان يعطي قرابته. وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه فأمري لأمركم تبع. وأما ما تريدونه من الفتنة أو الخلع فإنكم قد أسرعتم فيما عزمتم، ووالله لئن فارقتكم لتتمنون أن لو كان عمري عليكم مكان كل يوم سنة! لما سترون من الدماء المسفوكة والإحن، والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.»
وكان علي في أثناء الخطاب مطرقا مصغيا لا يبدي حراكا، حتى أتى عثمان على الفقرة الأخيرة فحرك علي حاجبيه وحنى رأسه تصويبا لقوله: «لما سترون من الدماء المسفوكة ... إلخ.»
وأما أسماء فلا تسل عن قلقها ومللها، وكان رفيقها واقفا إلى جانبها وقد شغل عنها بما ثار من عواطفه عند سماعه كلام عثمان، ومال إلى إفهام رفيقه الملثم جلية الخبر تشفيا من عثمان. ولكنه أراد قبل ذلك أن يعرف من هو، ثم تنسم من لهجتها صوتا نسائيا ولكنه استبعد أن يظهر في النساء مثل هذه الهمة، فصبر حتى انتهى عثمان من خطبته وقال لها: «أراك يا سيدي خالي الذهن من مغزى كلام الخليفة، ولكي تتفهمه أوضحه لك باختصار: إن خليفتنا هذا هو ثالث الخلفاء الراشدين، تولى الخلافة منذ بضع عشرة سنة، وحالما تولاها عزل الولاة الذين كانوا قبله ممن ولاهم الخليفة عمر، وولى مكانهم رجالا من بني أمية أي من أقاربه، ووسع أبواب الرزق لأهله وضيقها على سواهم، فثار المسلمون في الأعمال (الولايات)، وهم أهل مصر والكوفة والبصرة. أما أهل الشام فإنهم على دعوة عثمان، لأن عاملهم هو معاوية بن أبي سفيان من أقرباء الخليفة، وأما أهل الأمصار الثلاثة الباقية فنقموا على هذا الرجل وجاءوا في رجالهم يطلبون خلعه وتولية غيره مكانه، ولا يليق بالخلافة بعده إلا علي بن أبي طالب فإنه ابن عم النبي
صلى الله عليه وسلم
ووصيه. ولكن بين الذين يطمعون في الخلافة الآن اثنين من الصحابة هما طلحة والزبير. فالخلافة إذا خلع عثمان بين الثلاثة علي وطلحة والزبير، ووفد مصر يريدونها لعلي، ووفد الكوفة يريدونها للزبير، ووفد أهل البصرة يريدونها لطلحة، ولكنهم متفقون جميعا على خلع عثمان. وأما علي فلا رغبة له في الخلافة، ولكنه يخاف الفتنة بين المسلمين بسبب ذلك الخصام.»
وكانت أسماء تسمع كلام رفيقها وهي لا تفهم منه شيئا لعظم اضطرابها، ولكنها لم تر بدا من الصبر لأنها رأت عثمان عاد يتكلم. وما أتم عثمان كلامه حتى ضج الناس فعلمت أنهم خارجون، فحمدت الله على فراغه، فتنحت ريثما يخرج الجمع وقد زاغت عيناها وهي تتفرس في الجماهير لعلها ترى عليا خارجا معهم فخرج الكل ولم تره بينهم، فتحولت نحو الجامع وكان رفيقها قد سبقها إليه فوقفت تنتظره، فعاد وحده فلما استقبلها سألها: «هل رأيت عليا؟» فذكرت أنها لم تره، فجعل يبحث بين الناس ولكنه لم يجده. •••
عاد إلى الجامع وقد خلا من المصلين وأخذ الخدم في إطفاء المصابيح، فخافت أسماء أن يمنعوها من الدخول، ولكنهم لما رأوا رفيقها وسعوا لهما فعلمت أنه من كبار القوم. فدخلا إلى المسجد فرأت المكان خاليا، ووقف الرجل ووقفت وجعلا يفكران، وبعد برهة قال الرجل: «أظنه دخل حجرة امرأته فاطمة بنت النبي
صلى الله عليه وسلم
فإنها مدفونة في حجرة بإزاء هذا المسجد، وكثيرا ما كنا نراه يدخلها لزيارة ذلك الأثر الشريف، فلا بد من الانتظار ريثما يخرج.»
Неизвестная страница
فقالت: «لا صبر لي يا مولاي على الانتظار، دعني أدخل إليه وأخاطبه فإن الأمر الذي جئت من أجله يقتضي العجلة، وهب أنني أسأت الأدب في استعجاله فإنه سيعذرني متى عرف السبب، دعني أدخل الحجرة.»
فأجابها بصوت خافت: «تمهل يا صاح لنثق من دخوله إليها.» ومشيا الهوينى وهما حافيان لا يسمع لمشيهما وقع حتى انتهيا إلى الحجرة من باب صغير، وهي بناء مربع واطئ في وسطه ضريح السيدة فاطمة. فدخلا الحجرة والرجل ممسك بيد أسماء وقد ساد السكوت والظلام ذلك المكان المهيب، فوقفا لحظة لعلهما يسمعان حركة أو نطقا أو يريان شبحا فلم يسمعا شيئا ولم يريا شيئا، فهالهما الموقف ولم يتجرأ أحد منهما على الكلام ولكنهما تفاهما بالإشارة على الرجوع. وفيما هما يسيران سمعا صوتا عميقا كأنه خارج من القبر فاقشعر بدنهما ووقف شعر رأسيهما والرجل لا يزال قابضا على أنامل أسماء، فلما سمعا الصوت شعر بارتعاش تلك الأنامل شعورا امتد إلى كل جوارحه، فأومأ إليها أن تنصت فأنصتا فإذا الصوت خارج من حجرة الرسول بالقرب من حجرة فاطمة وبينهما حائط، وأصغيا فإذا هو صوت علي بن أبي طالب يناجي الرسول بصوت يتخلله تحرق وزفير، فوقفا وقلباهما يخفقان وهما يمسكان أنفاسهما كأنما يخافان أن يختلط زفيرهما بما يسمعان. وإليك ما سمعاه:
قم يا رسول الله تعهد أمتك وانظر إلى ما آلت إليه حالها من بعدك، لقد بعثك الله نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل، وليس أحد من العرب يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة، وقد كانوا على شر دين في شر دار، يشربون الكدر ويأكلون العشب، ويعبدون الأصنام، ويسفكون الدماء، ويقطعون الأرحام. فسقت الناس حتى بوأتهم محلتهم، وبلغتهم منجاتهم، فاستقامت قناتهم، واطمأنت صفاتهم، وجعل الله الإسلام أمنا لمن علقه، وسلما لمن دخله، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، ونورا لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل. فقام بنصرته قوم دعوا إلى الإسلام فلبوه، وقرءوا القرآن فأحكموه، قوم لا يبشرون بالأحياء ولا يعزون بالموتى. مره العيون من البكاء، خمص البطون من الصيام، ذبل الشفاه من الدعاء، صفر الألوان من السهر، على وجوههم غبرة الخاشعين. قد كنت يا رسول الله تأكل على الأرض، وتجلس جلسة العبيد، وتخصف نعلك بيدك، وترقع ثوبك بيدك، وتركب الحمار العاري. ولقد يكون الستر على بابك عليه التصاوير فتقول لإحدى أزواجك: «غيبيه عني، فإني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها.» وكنت يا رسول الله إذا احمر البأس وأحجم الناس، تقدم أهلك فتقي بهم أصحابك حتى قتل عبيدة بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر يوم مؤتة. هذه هي سنتك وتلك هي قدوتك. فلما فارقتنا خلفك شيخ (أبو بكر) حارب المرتدين، وأيد الدين القويم، وخلفه رجل فتح الأمصار ودون الدواوين، وشاد للعدل منارا، فاعتز به الإسلام، وامتدت رايته على العراق وفارس ومصر والشام، وفر من وجهه كسرى وقيصر، والناس يومئذ مجتمعون حول الدعوة آخذون بناصرها بقلب واحد. حتى تولاهم عثمان وهو شيخ صادق الإسلام، ولكنه استأثر بالسلطة وآثر أهله على سائر المسلمين، فقاموا عليه قومة رجل واحد، وتجمعوا على نبذ طاعته وأقروا على خلعه، لا ترهبهم خلافته ولا يخشون سطوته. كأن الناس إنما أذعنوا لأهل السابقة من الصحابة لما كانوا فيه من الذهول والدهشة لأمر النبوة وتردد الوحي وتنزل الملائكة، فلما انحسر ذلك العباب وتنوسي الحال واستفحل الملك أنفت نفوس المسلمين من غير قريش وهان عليهم نبذ طاعة الصحابة حتى بلغ من جرأتهم التمرد على الخليفة. فعظمت الفتنة وخفت ما خوفتنيه يوم سألتك عن الفتنة فقلت لي: «يا علي، إن القوم سيفتنون بعدي بأموالهم ويمنون بدينهم على ربهم، ويتمنون رحمته ويأمنون لسطوته، ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية.» آه يا رسول الله! لقد طالما نصحت لهذا الخليفة ألا يكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنه كان يقال: يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمرها عليها ويثبت الفتن فيها. ولكنه انصاع إلى شاب من أهل قريته (مروان بن الحكم) يسوقه حيث شاء بعد جلال السنين وتقضي العمر.
ولما بلغ علي إلى هذا القول زفر زفرة سمعتها أسماء وصاحبها، كما سمعاه يبكي بكاء تقطع له قلباهما، وهما لا يكادان يصدقان أنهما يسمعان عليا يبكي، فبهتا وهما يحسبانه يهم بالنهوض، ثم سمعاه يقول:
هذه هي حال أمتك يا رسول الله. فإني أشكو إليك قوما افترقوا بعد ألفتهم، وتشتتوا عن أصلهم، فكل منهم آخذ بغصن أينما مال مال معه، حتى أصبحت الأحوال مضطربة، والأيدي مختلفة، والكثرة متفرقة. أما أنبأتك صفيتك (فاطمة) النازلة بجوارك بتضافر أمتك على هضمها؟ وإني أخاف أن ألحق بكما والحال على ما وصفت، فأستحيي أن أحمل إليك خبر هذه الفتنة التي أخافها أن تفرق كلمة الإسلام. فادع لنا ربك أن يجمع كلمتنا ويلم شعثنا ويأخذ بناصرنا فنعلم مكان الخلافة منا. والسلام عليك حتى نلتقي.
وسمعت أسماء وصاحبها عليا وهو يقرأ الفاتحة فعلما أنه يتأهب للنهوض، فأسرعا في التقهقر حتى خرجا من الحجرة إلى المسجد وخرجا منه إلى البطحاء وقد خف الازدحام لتفرق الناس إلى منازلهم، فوقفا ينتظران عليا فقال الرجل: «أظنه لا يخرج من هذا الباب، فلنقف له بالباب الآخر.» فناديا الغلام قائد الفرس فتبعهما ومشيا وقد نفد صبر أسماء وأنهكها الملل، ولم يمشيا قليلا حتى لقيا عليا خارجا من باب الجامع ومنديله لا يزال في يده يمسح به عينيه، ثم جعل يصلح عمامته ويسرح لحيته بأنامله ويمشي الهوينى كأنه عائد من سفر طويل.
فتقدم الرجل إليه وحياه فقال علي: «مرحبا بابن أبي بكر، أهلا بك يا محمد. ما الذي جاء بك؟» فعلمت أسماء أنه محمد بن أبي بكر وكانت تسمع به. قال: «لقد جئتك بقادم غريب قد أنهكه البحث.» قال: «لماذا لم تنزله في دار الأضياف؟ أين هو؟»
فتقدمت أسماء وألقت التحية وهي لا تزال ملثمة وقد التفت بالعباءة، فنظر علي إليها فعلم أنها متنكرة لأمر ذي بال فقال لها: «ما غرضك يا أخا العرب؟»
قالت: «لقد جئت أدعوك لغوث امرأة مريضة في خطر شديد، تلتمس أن تراك لتبث لك سرا ضنت به علينا جميعا.»
فقال: «ومن تكون هذه المرأة؟» قالت: «هي أمي، وأما زوجها فهو من بني أمية. وقد جئنا بها من دمشق فتحملت مشاق السفر والمرض على أمل أن تبلغ المدينة فتطلعك على ذلك السر، فاشتد عليها المرض حتى لم تعد تستطيع الوصول.»
Неизвестная страница
قال: «أين هي الآن؟»
قالت: «هي في قباء على مقربة من هذا المكان.»
قال: «هيا بنا إليها. هل ترافقنا يا محمد؟»
قال: «إني في خدمتك حيثما سرت، وإذا رأيت أن أقوم بهذا الأمر دونك لما أنت فيه من المشاغل الكثيرة فعلت فتبقى أنت هنا.»
قال: «لا بأس من ذلك، ولكنني أخشى أن يكون مجيئي إليها واجبا وهي امرأة في مرض شديد تجب علينا إغاثتها.» قال ذلك ومشى نحو البيت يلتمس فرسه، ومشى الاثنان في أثره ومحمد ينظر إلى أسماء خلسة لعله يستطلع شيئا من أمرها، وهي تطلب إلى الله أن يعجل علي في الخطى، ولكنه لم يمش قليلا حتى لقيه رجل مهرول وعليه أمارات البغتة، فقال له: «ما وراءك يا غلام؟»
قال: «لقد عاد المصريون إلينا بعد خروجهم.»
فقال: «وكيف عادوا وقد عهدناهم راضين بما وعدهم به الخليفة من الإصلاح؟»
قال: «لا أدري إلا أنهم عادوا إلينا غضابا، وهم ينتظرونك في فناء دارك.»
فقال علي: «لا حول ولا قوة إلا بالله!» وسار وهو يهز رأسه وينظر إلى محمد، وكان هذا في مثل حاله من العجب لما سمعه. فقال علي: «ما بال هؤلاء القوم لا يريحون لنا بالا؟! إني أرى مشكلتهم هذه لا تنحل إلا بفتنة تئول إلى الفشل، فوالله إنهم ليرومون أمرا عظيما أخشى منه اختلال الحال»، فقال محمد: «لا يخلو رجوعهم من أمر ذي بال.»
وأسرعا حتى أتيا بيت علي فرأيا الناس عند بابه زرافات ووحدانا بين فارس وراجل وقد علت ضوضاؤهم. فلما أشرف علي عليهم ترجل الراكبون وهرول الواقفون نحوه، وفي مقدمتهم رجل لا يزال بثياب السفر فحيا عليا فرد التحية وقال له: «ما الذي عاد بكم إلينا وكنا قد فضضنا بينكم وبين عثمان ووعدكم خيرا؟»
Неизвестная страница
قال: «إنه لم يعدنا إلا خداعا.» قال ذلك ومد يده فأخرج أنبوبة من الرصاص فتناولها علي ومشى إلى مصباح مضيء عند باب الدار، ونظر فرأى فيها صحيفة من جلد أخرجها وقرأ، فإذا كتاب من عثمان إلى عامله بمصر يأمره فيها بجلد زعماء المصريين الذين قدموا المدينة لمطالبته، وحبسهم وحلق لحاهم وصلب بعضهم، فبغت علي لذلك وتأمل الصحيفة فإذا في ذيلها خاتم عثمان وكان يختم كتبه بهذه العبارة: «لتصبرن أو لتندمن.» فتحقق أنه خاتمه فقال: «وما الذي أظفركم بهذا الكتاب؟»
قال: «برحنا المدينة أمس على ما وعدنا هذا الرجل من الإصلاح وصدعنا بأمرك، فلم نكد نخرج حتى لقينا غلام عثمان على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الأنبوبة وفيها هذه الصحيفة.»
فقال علي: «إنا لله وإنا إليه راجعون! ما بالنا لا نكاد نرتق فتقا حتى نرى غيره؟! ما الذي غير عثمان وحمله على هذا العمل؟!»
فقال محمد بن أبي بكر: «إنها فعال مروان بن الحكم ابن عمه، فقد كان غائبا في الشام ولم يأت المدينة إلا في غروب هذا اليوم، ونظنه هو الذي أغرى عثمان بذلك.»
فتأفف علي وقال: «تبا لهذا الشاب! إنه لا يدل إلا على الشر.»
فلما سمعت أسماء ذكر مروان عرفت أنه هو طالبها ورفيق سفرتها، فازدادت كرها له وقالت في نفسها: «قبحه الله! إنه لا يزال عثرة في طريقنا»، وأيقنت أن ذلك سيكون سببا في عدول علي عن المسير معها فخاطبت محمدا في الأمر، فقال: «لا تخف يا صاح، إننا منجدوك.» وخاطب عليا في ذلك فقال له: «إني أخاف إذا برحت المدينة في هذا الليل أن يقع ما نندم عليه. سر يا محمد مع هذا النزيل وافعل ما تراه وقم عني في كل خير يرجونه، ثم عد إلي بالخبر.»
فلم تعد تتجرأ أسماء على الإلحاح فقنعت بما وقع مخافة أن يقع ما هو شر منه، فالتفتت إلى فرسها فإذا بالغلام يقوده وراءها فتهيأت للركوب، وبعث محمد فاستقدم فرسه. وركب الاثنان ومحمد ينظر إليها وهي تركب لعله يرى بعض ثيابها تحت العباءة في أثناء الركوب، فلمح من ثوبها شيئا أحمر اللون يشبه ثياب النساء، ولكنه ما زال مستبعدا مثل هذه الجرأة من امرأة.
وسار الاثنان يلتمسان قباء لا يكلم أحدهما الآخر، ولكن محمدا كان شديد الميل إلى معرفة حقيقة رفيقه بعدما اشتبه فيه من أمره، فخرجا من المدينة والظلام حالك. وبعد هنيهة أشرفا على قباء، فلما أطلت أسماء على خيمة أمها عرفتها من النار المضيئة خارجها، فخفق قلبها مخافة أن يكون قد وقع في أثناء غيابها ما يوجب حزنا، فهمزت الجواد فطار بها حتى سبق جواد محمد بثباتها على متنه. ولم يدركا الخيمة حتى خرجت امرأة خادم الجامع لاستقبالهما، فترجلت أسماء عند باب الخيمة وترجل محمد، ثم دخلت وهي تحل عقالها وتنزع العباءة عن كتفيها ودنت من سرير أمها، فإذا هي قد أفاقت وفتحت عينيها ونظرت إلى أسماء بلهفة وعيناها تنظران إلى باب الخيمة كأنها كانت تتوقع دخول أحد، وقالت: «أين علي؟»
فخافت أسماء إذا أخبرتها الحقيقة أن تحدث لها حدثا فيزيد مرضها، فقالت لها: «إنه آت يا أماه.» واغرورقت عيناها بالدموع.
وذهب محمد في أثر أسماء يتفرس فيها على نور المصباح فلما نزعت عقالها رأى شعرها من الوراء طويلا مسترسلا، ثم نزعت العباءة فبان رداؤها الأرجواني اللامع وهو عبارة عن قفطان من الديباج عليه منطقة من جلد عريضة تعودت لبسها في السفر فتحقق أنها فتاة، فشعر بإعجاب غريب. ولم يبق بعد ذلك إلا أن ينظر إلى وجهها، فأسرع في أثرها حتى دنا من السرير فاعترضه منظر والدتها، وحالما وقع نظره عليها هاله نحولها وفرط سقمها وامتقاع لونها وشخوص عينيها، ولكنه التفت إلى أسماء فإذا فيها فضلا عن الجمال هيبة وجلال كأنما هي ملكة وجبار معا، فلم يتمالك عن الإعجاب بها والانعطاف إليها وأحس بإحساس غريب نحوها. •••
Неизвестная страница
أما هي فقد كانت في شاغل عن حاله بما هي فيه من القلق على أمها، وكانت قد اطمأنت قليلا لما رأتها منتبهة وقد ندمت على عودتها بغير علي، ولكنها أيقنت أن مجيئه لم يكن ممكنا والناس في انتظاره عند منزله على تلك الصورة. ثم حولت وجهها نحو محمد وعيناها شاخصتان إليه لا تتحركان إلا تكلفا فلم تتفرس فيه إلا قليلا حتى تساقطت دموعها على خديها. فلما رآها محمد تبكي انفطر قلبه، فخاطب المريضة قائلا: «كيف أنت يا خالة؟»
فقالت: «ابن أبي بكر؟»
فلما سمع قولها اقشعر جسمه، وابتدرها قائلا: «أجل إني هو، ماذا تأمرين؟»
قالت: «أين هو علي؟» قال: «قد بعثني لأنوب عنه لأنه في شاغل مهم، فأمري بما تريدين.»
قالت: «لا أريد أحدا غير علي، أدركوني به. لا أريد أحدا سواه.» قالت ذلك وظهر الكدر في وجهها.
فعجبت أسماء لما سمعت أمها تقول «ابن أبي بكر»، وشعرت عندما سمعت اسمه من فمها بارتياح إليه، ولكنها تململت لإصرارها على استقدام علي فقالت لها: «ألا تزالين تطلبين عليا؟»
قالت: «نعم لا أزال أطلبه، أدركوني به فإن في نفسي سرا لا أبوح به إلا له، أدركوني به قبل انقضاء أجلي.»
فنظرت أسماء إلى محمد نظرة استحثاث أثرت فيه تأثيرا غريبا، وشعر كأن نظرها اخترق صدره حتى وقعت سهامه في قلبه فنهض للحال وقال لأسماء: «إذا لم يكن بد من استقدام علي فإني ذاهب لاستقدامه.» وخرج فامتطى جواده وهمزه نحو المدينة وعزم على ألا يعود إلا بعلي.
وخرجت أسماء تنظره فسمعت وقع أقدام جواده يخترق السهل، وتذكرت يزيد فبحثت عنه فإذا هو نائم في خيمة أخرى لا يبالي شيئا فلم تكترث له.
وعادت إلى سرير والدتها وقلبها يخفق خوفا عليها، فإذا هي قد غيرت وضعها فتحولت إلى جنبها الآخر وأطبقت أجفانها بعض الإطباق أو هي أرختها، وعيناها مفتوحتان على كيفية لم تعهدها فيها من قبل، ورأت حدقتيها قد جمدتا وشخصتا فخافت من منظرها ونادت العجوز وكانت قد خرجت لحاجة فقالت لها: «ما بال أمي قد غيرت وضعها؟ وما لي أرى عينيها شاخصتين جامدتين؟!»
Неизвестная страница
فبغتت العجوز وقد أيقنت أن المريضة في حالة النزع وبخاصة حين رأت كتفها يختلج وتنفسها يسرع، فامتقع لون العجوز وظهر الخوف عليها، فأدركت أسماء خوفها فصاحت بها: «ما بالك خائفة، لعل أمي في خطر؟!»
فقالت: «عسى ألا يكون خطر يا ابنتي، والاتكال على الله.» وخرجت مسرعة.
فاضطربت الفتاة وأمسكت بيد والدتها فجستها فإذا هي باردة جافة، ونظرت إلى عينيها وقد غارتا في تجويفهما وذهب لمعانهما، فارتعدت فرائصها وخافت خوفا شديدا وأسرعت إلى باب الخيمة لتستقدم العجوز.
وفيما هي تتحول شهقت أمها شهقة عنيفة، فأجفلت وعادت إلى السرير وهي تحسبها تتكلم فانحنت عليها وقبلتها في جبينها فإذا هو بارد جاف، فاقشعر جسمها وازداد خفقان قلبها واصطكت ركبتاها، ولم تكن رأت ميتا قبل ذلك الحين، فنادت العجوز فأتت، فجعلت أسماء تنظر إليها وتتبين عواطفها فرأتها في وجل فازداد خوفها. فأعادت النظر إلى وجه والدتها فإذا هي فاتحة فاها وقد برز فكاها واتسع شدقها وسكن اختلاج صدرها وبرز أنفها واستطال واصفر لونها، فنظرت أسماء إلى العجوز فرأتها قد خرجت من الخيمة فتبعتها فإذا هي تنادي يزيد وصوتها مختنق، فتحققت وقوع القدر.
فعادت إلى السرير وصاحت: «أماه! أماه!» ولا من مجيب، فدقت يدا بيد ولطمت فإذا بالعجوز عائدة وهي تلطم وتقول: «حلي شعرك يا ابنتي إن أمك ماتت! وا حسرتاه!»
فحلت أسماء شعرها وأخذت تصيح وتلطم وجاءتها العجوز برماد لطخت به رأسها، وكان يزيد قد أفاق فجاء وأخذوا في العويل والنوح، فتجمع أهل القرية على صياحهم وعلا البكاء. ولم يفعل أحد منهم فعل أسماء فإنها كادت تقتل نفسها لفرط البكاء والندب واللطم، وعبثا كانوا يخففون عنها فكم ألقت نفسها فوق والدتها وتوسدت جثتها وأخذت في تقبيلها وهي تقول: «لمن تركتني يا أماه؟! ولمن أشكو همي بعدك؟! ومن يخبر عليا عن السر؟! ومن يحمينا من غدر الخائنين؟! آه من الزمان! لعل أجلك قد ساقنا إلى هذه الصحراء لتدفني فيها، ما النفع من بقائي بعدك وقد أصبحت وحيدة يتيمة لا سند لي ولا معين؟!»
وأما يزيد فكان يتظاهر بالبكاء ولا تذرف له دمعة.
وفيما هم في ذلك سمعتهم أسماء يقولون: «جاء علي»، فصاحت صيحة ارتج لها المكان وقالت: «لقد أبطأت يا أبا الحسن، إن أمي ماتت ومات سرها معها!» ثم نظرت إلى أمها وكانوا قد غطوها بالملاءة وقالت لها: «قومي يا أماه احسري نقابك فقد جاء علي، قومي إليه وأطلعيه على سرك، وقومي وأشفقي على ابنتك!»
أما علي فترجل وقد شغله أمر الفتاة عن الالتفات إلى الميتة، وكانت أسماء قد توردت وجنتاها وذبلت عيناها وتكسرت أهدابهما لما انسكب منهما من الدموع. ومما زادها هيبة ووقارا استرسال شعرها الأسود على ظهرها وصدرها وحول كتفيها وقد غطى معظم وجهها، ناهيك بانكسارها وذلها من الحزن واليأس فإنهما يزيدان الجمال جاذبية. وكان أكثر الناس تأثرا من منظرها محمد بن أبي بكر، فإنه لم يتمالك نفسه عن البكاء لما لقيه من الفشل في مهمته، وقد أنهك جواده سوقا واستحث عليا على القدوم رغم ما كان فيه من المشاغل ووعده بالاطلاع على سر عظيم، وظن نفسه قد عاد ظافرا فرأى الفشل ينتظره.
وحالما وقع نظر علي على أسماء شعر بانعطاف نحوها وتوسم في طلعتها ملامح ارتاح إلى التفرس فيها، فحمل ذلك الانعطاف على محمل الشفقة لما رآه من تعاسة تلك الفتاة، وندم ندما شديدا لتقاعده عن المجيء معها وأحس بأن عليه مواساتها جهد طاقته، فوقف وقفة معتبر لمصير الإنسان ثم أجال بصره في الناس وهم سكوت يسمعون وقال: «ما أصف من دار أولها عناء وآخرها فناء، في حلالها حساب وفي حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن، ومن ساعاها فاتته، ومن قعد عنها واتته، ومن بصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته. انظروا إلى هذا الميت فقد قبض بصره كما قبض سمعه وخرجت الروح من جسده فصار جيفة بين أهله لا يسعد باكيا ولا يجيب داعيا. اعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قضى قبلكم ممن كانوا أطول أعمارا وأبعد آثارا، فأصبحت أصواتهم هامدة ورياحهم راكدة وديارهم خالية وآثارهم فانية، وأقاموا بمنازل شيدت بالتراب، أهلها لا يستأنسون بالأوطان، ولا يتواصلون تواصل الجيران على ما بينهم من قرب الجوار، وكيف يكون بينهم تزاور وقد طحنهم بكلكله البلى وأكلتهم الجنادل والثرى؟!»
Неизвестная страница