فخرج محمد وسار إلى دار الأضياف، فلقي الرسول فعرفه فسأله عن «عجوة» هل لقيها في مكة، فأجاب بأنه رآها يوم سفره عند أم الفضل ومعها فتاة مريضة.
فقال محمد: «وهل تعرف الفتاة؟»
قال: «لا أعرفها فإنها غريبة الدار، ولكنني علمت أنها جاءت مع العجوز عند أم المؤمنين ثم انتقلت إلى بيت أم الفضل، ورأيتها تشكو من حمى شديدة.»
فأحس محمد بنار تلك الحمى في أحشائه وخاف أن تكون أسماء قد أصيبت بسوء، فأصبح يدفعه إلى الإسراع في الرحيل دافعان: خدمة أمير المؤمنين، والبحث عن أسماء.
فودع عليا وخرج لساعته وركب هجينا واصطحب خادما من السبئية، وركب قاصدا إلى مكة يود لو يطير إليها على أجنحة النسيم. فبات ليلته في قباء فتذكر أول مرة رأى فيها أسماء تندب أمها، وأصبح قبل الفجر على هجينه يطوي السهل والوعر وهو لا يصدق أنه يصل إلى مكة ويرى أسماء على قيد الحياة.
وكان كلما اقترب من مكة تعاظم الأمر لديه، وثارت فيه الحمية الإسلامية والغيرة على الإمام علي وهان عليه أمر الحب وعوامله، فلم يخل باله من هذه الهواجس لحظة. وتذكر نصح أسماء وما تنبأت به من عواقب الفتنة، وكم أشارت على الناس بالكف عن عثمان منادية ببراءة ساحته! فعظمت في عينيه وازداد إعجابا بتعقلها ودقة نظرها، وأيقن أنهم لو انصاعوا إلى رأيها لكانوا تجنبوا هذه الحروب.
قضى طريقه كله في مثل هذه الخواطر، وكان يستحث جمله لا يلتفت يمنة ولا يسرة مخافة أن يضيع عليه الوقت، فأمسى وهو على بضعة أميال من مكة فشق عليه المبيت خارجها وصمم على مواصلة السير حتى يدخلها ولو ليلا. فأشار عليه خادمه أن يستريح هنيهة ويريح الجمل ريثما يطلع القمر فيسيران على نوره، فاستحسن الرأي ونزلا بمكان رأيا فيه بيتا عند بابه شيخ توسد حصيرا من سعف النخل وأمامه جرار وأكواب من الخشب يسقي بها من يستسقيه في تلك الصحراء.
فسلم على الشيخ وحياه، فرحب به ونادى ابنة له وعيالا ليقدموا لضيفهم ما يحتاج إليه من الماء أو العلف للجمال. فصعد محمد إلى رابية خلا فيها إلى نفسه وقد غابت الشمس، فأجال نظره إلى مغيبها في الأفق وكان الجو صافيا وقد ظهر الشفق بألوانه من خلال أغصان الأشجار المبعثرة على الآكام، وكان الجو قد هدأ فلم يعد النسيم يهب إلا عليلا، وأوت الطيور إلى أعشاشها إلا الخفاش فإنه خرج يطير. فاتكأ محمد على بساط فرشه له خادمه وعيناه شاخصتان إلى الأفق يراقب تلونه، فما زالت ألوانه تتحول من الزهو إلى الكمود حتى خيم الظلام، فأوقد الشيخ نارا يهتدي بها المارة إلى ذلك المستقى.
وظل محمد غارقا في هواجسه حتى غاب وجدانه فنبهه ضب مر عند قدميه، فوقف وقد لفت نظره من الأفق أشباح تتراءى بينه وبين السماء، فتفرس فيها فإذا هي بضعة جمال على أحدها هودج وعلى سائرها أناس قد حجب البعد هيئتهم، وأسرعوا في المسير فخيل إليه أنهم خارجون من مكة يريدون المدينة، فلما تواروا عن بصره ولم ير أحدا في أثرهم علم أنهم ليسوا من الطلائع. ولكنه عجب من خروجهم من مكة في ذلك الليل وإسراعهم بالسير في غير الطريق العام كأنهم سائرون خلسة، وتمنى أن يعلم أمرهم ولكن الظلام حجبهم عنه فعاد إلى هواجسه. ولم تمض هنيهة حتى طلع القمر من وراء تلك الأكمة كأنه رقيب أطل للكشف عن لصوص في الظلام، فلما رأوا وجهه بادروا إلى الفرار إلا من كان منهم قريبا ولم يستطع فرارا فاختبأ وراء التلال وفي أعماق الأودية ثم لحق برفاقه وتلاشى. وكان القمر ساعتئذ دون البدر وقد ابيض وجهه وسطع نوره فحرك ما في نفس محمد من الشجون، فنادى خادمه فهيأ الهجن وودع الشيخ وركب قاصدا مكة. •••
ولم يسر ساعة حتى أشرف على مكة، وهي في منبسط من الأرض تحدق بها جبال من كل ناحية، فصعد إلى أكمة وأطل منها على ضوء القمر، فكانت الكعبة أول ما لفت نظره، وكان يتوقع أن يرى مضارب أو جنودا في مكة أو حولها فلم ير شيئا. فواصل السير يريد منزل أخته أم المؤمنين، فمر بالأسواق فلم يجد ما كان ينتظره من الجلبة والازدحام، حتى بلغ دار أخته فترجل عند بابها وقرعه، فأطل عليه عبد حبشي عرف من صوته أنه من عبيد أم المؤمنين فناداه باسمه، ففتح له الباب فدخل فرأى المنزل خاليا فسأله عن أم المؤمنين فقال: «إنها خرجت من مكة بالأمس.»
Неизвестная страница