وكان علي يتكلم والدموع تتساقط من عينيه هادئة تنحدر على لحيته، فأعجب محمد لما آنسه من ذلك البطل من الحنان، وأشد الحزن ما يبكي الرجال.
أخذ علي يخفف عن أسماء وكانت جالسة الأربعاء فاقترب منها وأمسك بيدها وقال لها: «اصبري يا بنيتي، إن الحزن والبكاء لا يجديان، إن أمك قد سبقتنا إلى دار اللقاء الأخير. وأما ما تذكرينه من اليتم فلا تخافيه لأن الله كفيل باليتامى، واتخذيني لك أبا وألقي همك بعد الله علي، واصبري إن الله مع الصابرين.»
فنهضت أسماء وقد سقط منديلها من يدها، فمسحت دموعها بكمها المسترسل من معصمها فعلقت أزراره بشعرها فانحسر بعضه عن وجهها فأطرقت خجلا، وأجابت عليا وصوتها مختنق وقالت: «شكرا لك يا رجل المسلمين ووصي خاتم النبيين على مواساتك، وسمعا وطاعة في مرضاتك. وإن أمي هذه (قالت ذلك وأشارت إليها وقد خنقتها العبرات) فاضت روحها وهي تذكر عليا وتناديه وفي صدرها سر أبت أن تبوح به إلا له، فها قد ذهب سرها معها ويا ليتها باحت به، أو ليتني ألححت عليك بالقدوم! ولكن ما الحيلة وقد قضي الأمر؟!» قالت ذلك وعادت إلى البكاء متهيبة مجلس علي.
أما محمد بن أبي بكر فلا تسل عما خالج قلبه، وما أحس به من الميل الشديد إلى أسماء، حتى شعر بأن المصيبة واقعة عليه، ولم يدر كيف يعزيها أو يخفف عنها، وتمنى لو بقي معها لمواساتها إلى ساعة الدفن. وإذا بعلي يناديه فلباه، وقال له علي بعد أن انتحى به ناحية: «لا أرى ثم ما يدعو إلى بقائي هنا وقد ماتت حاملة السر»، فقال: «أجل يا عماه، إنك مشغول بأمر الخليفة. وقد أسفت على مجيئك بلا فائدة»، فقال علي: «إني إذن ذاهب. وأوصيك بأهل هذه الميتة خيرا، وانظر فيما يحتاجون إليه، فإذا تم الغسل والدفن فأوصل الفتاة وأباها ومن معها إلى مقرهم، وإذا رأيتهم في حاجة إلى الإنفاق فادفع إليهم ما يحتاجون إليه. على أني لا أرى أبا الفتاة حزينا إلا بالانقياد!»
فقال محمد: «سر في حراسة الله! إني فاعل كل ما تأمرني به، ولكنني آسف لضياع السر فإنه لا يخلو من أمر»، فقال علي: «إني أفكر في ذلك ولا أرى بابا لحله.»
ثم التفت إلى يزيد وناداه، فجاء ووقف بين يديه وهو لا يستطيع النظر إليه إلا خلسة، فلما رأى علي مسارقته النظر ورفرفة أجفانه وتردد بصره كأنه يرى ما يبهره تحقق أن الرجل مراء يضمر غير ما يظهر، لأن من سلمت سريرته وأخلص نيته كان بصره ثابتا صافيا مثل قلبه، وأما المرائي المخاتل فلا يستطيع تثبيت نظره في مخاطبه كأنه يفكر في حيلة يخترعها. ونظر علي إلى يزيد فعرف أنه أموي فقال له: «اصبر يا أخا أمية، إنك بليت بما يبلى به كل ابن أنثى ولا حيلة إلا الصبر.»
فتظاهر يزيد بالبكاء، فقال علي: «لقد أوصيت بكم محمدا ليتولى قضاء حوائجكم ويواسيكم، وإذا نزلتم المدينة نزلتم في حمانا.»
فشكر يزيد وأثنى وهم بتقبيل يده. ثم تقدم علي إلى أسماء وهي تبكي فعزاها وقال لها: «إن محمدا باق لمواساتكم»، فأجهشت ولسان حالها يشكره. فخرج علي وهو يقول لمحمد: «إني لأعجب مما بين هذه الفتاة وأبيها من البون الشاسع فكأنها ليست ابنته!» ثم امتطى جواده وودع وسار قاصدا المدينة.
أما محمد فأمر خادم الجامع بإحضار من تقوم بالغسل والدفن، ثم افتقد يزيد فلم يجده بين الناس فعجب لغيابه، وظنه بادئ ذي بدء قد ذهب لحاجة له، فلما طال غيابه ارتاب في أمره حتى إذا انفلق الصبح رآه بين الناس، فلم يسأله عن سبب غيابه لئلا يكون في السؤال تطفل. ثم غسلوا الميتة وصلوا عليها ودفنوها، وأسماء لا تنفك عن البكاء والنحيب. •••
فلما عادوا من الدفن اقترب محمد بن أبي بكر من يزيد وسأله عما يحتاج إليه، فبالغ هذا في الثناء والشكر، فسأله محمد: «أتريدون الذهاب إلى المدينة فتنزلوا علينا، فإن عليا أوصانا بكم خيرا؟»
Неизвестная страница