قالت وقد ملت الجدل: «إن أمي تطلب عليا بإلحاح فما علينا إلا أن نبعث في طلبه.»
قال: «سأرسل في ذلك أحد رجالي، ثم أذهب أنا في أثره أستعجله.» قال ذلك وأمر أحد الأتباع بالذهاب إلى المدينة، ثم ذهب هو على أثره.
عادت أسماء إلى والدتها فإذا هي في غيبوبة، فمكثت ساعة في انتظار الرسول، ولما استبطأته خرجت من الخيمة وتوجهت بنظرها إلى المدينة والظلام حالك فلم تر أحدا، فصعدت إلى مرتفع أشرفت منه على أبنية المدينة فلم تر منها إلا المسجد النبوي والأنوار تشعشع في بعض جوانبه. ولو أنها لم تصعد إلى ذلك المرتفع ما استطاعت رؤية المدينة، لأنها قائمة في منبسط من الأرض تحدق بها جبال تنحدر منها السيول على أثر الأمطار، فيصبح السهل المجاور لها مستنقعات وآبارا تجتمع فيها المياه على مدار السنة، وتنمو حولها أشجار الصفصاف والبيلسان والنخيل وكثير من الأعشاب. فلما أطلت أسماء على المدينة راعها منظر ما بينها وبين قباء من المياه المتجمعة التي انعكست على سطحها أشعة الكواكب، غير أن ذلك لم يكن ليشغلها عن مرض والدتها فعادت مسرعة إلى الخيمة، فرأت أن يزيد قد توسد الأرض خارج الخيمة ونام، فأسفت لما رأت من فقده المروءة والشعور، ولكنها لم تستغرب ذلك لأن أمها كانت قد قالت لها غير مرة إن هذا الرجل ليس أباها، ولكنها كتمت عنها اسم أبيها وظلت تعدها بأن تنبئها به. فلما رأت ما بلغته والدتها من الضعف في تلك الليلة خافت إن أصابها سوء أن يبقى أبوها مجهولا عندها، فدنت من فراشها وهي ما برحت غائبة، فأمسكت يدها الباردة ولمست جبينها المبلل بالعرق فاضطربت جوارحها وخافت على والدتها في ذلك القفر، واستنكفت أن تخاطب يزيد في الأمر احتقارا له، فهمت بالخروج لاستقدام خادم المسجد لعلها تجد عنده امرأة تستأنس بها، فرأت أمها تحرك رأسها وترفع يدها كأنها تشير إليها أن تدنو منها، فدنت وهمت بها فقبلتها وقالت: «ماذا تريدين يا أماه؟»
قالت: «ألم يأت علي؟» قالت: «لم يعد رسولنا بعد.»
قالت: «أخاف ألا يعود وقد نفد صبري وخارت قواي، استقدموا عليا قبل فوات الفرصة.»
فقالت: «لا يلبث علي أن يأتي. ألا تبوحين لي بما تريدين أن تقوليه له، ألم يأن لي أن أعرف من هو أبي؟»
قالت: «ستعرفينه متى جاء علي» ثم تنهدت وقالت: «آه ...!» •••
فلما سمعت أسماء ذلك اشتد حزنها وقلقها ، ولا سيما أنها خشيت أن يكون ذهاب مروان في أثر الخادم سببا في تأخير قدوم علي، فعزمت على المسير بنفسها وهي لم تكن قد دخلت المدينة قبل الآن، ولكنها استسهلت كل صعب في سبيل مرضاة أمها ورغبتها في استطلاع ذلك السر. فشدت عقالها حول رأسها وتلثمت حتى لم يبق ظاهرا من وجهها إلا عيناها، وتزملت بالعباءة فوق ثيابها فأخفت رداءها النسائي، وركبت جوادها وكان لا يزال مسرجا، وأيقظت يزيد وأوصته بوالدتها خيرا. وهمت بالخروج فلم يطاوعها قلبها خوفا على أمها فوقفت متحيرة، ثم تذكرت خادم الجامع فسارت إليه وكان قد فرغ من الصلاة، فسألته عن امرأته فقال: «هي في خدمتكم»، وناداها فجاءت فإذا هي عجوز ولكنها نشطة سمحة الوجه، فأوصتها بأن تساعد يزيد في السهر على أمها في أثناء غيابها. وخرجت ولم تخبر أمها لئلا تمنعها من الذهاب واتخذت أنوار المسجد النبوي قبلتها، وهمزت الجواد وكان من أصائل الخيل فجرى وهو تارة يغوص في منخفض وطورا يصعد على أكمة، وهي لا ترى شيئا لفرط قلقها واضطرابها إلا أشباح النخيل والبيلسان، حتى دنت من سور المدينة واهتدت إلى بابها فدخلت منه إلى أسواق ضيقة متعرجة لا يكاد يمر بها الجواد، ولكنها على ضيقها مزدحمة بالناس وأكثرهم من الغرباء، فعلمت أن ما قاله مروان صحيح. فسألت رجلا يبيع التمر عن منزل علي فدلها عليه وهو يحسبها رجلا، فهمزت الجواد وأسرعت فلم تبلغ باب المنزل حتى كبا جوادها فسقطت وكادت تلقى حتفها، ولكنها لم تبال بل نهضت وتلمست باب المنزل، ولم تكد تدركه حتى سمعت صريره فوقفت تنتظر فتحه، فخرج إليها شاب طويل القامة لم تتبين وجهه لشدة الظلام، وكان قد سمع كبوة الجواد فأسرع نحوه فرأى فارسه قد وقف وهو لا يزال ملثما، فاستقبله وسأل عن خبره وهو يظنه رجلا.
فقالت أسماء: «لعل مولانا عليا في المنزل؟» قال: «كلا، ليس هو هنا الآن، ماذا تبغي منه فإني أرى لهفتك وعجلتك؟»
قالت: «نعم، جئت في أمر مهم، ولكنني لا أقوله إلا لعلي نفسه .»
Неизвестная страница