أما صفاته الخلقية فقد اتفقت فيها أقوال واصفيه، ودلائل أعماله في الجاهلية والإسلام، فكان أليفا ودودا حسن المعاشرة، وكان مطبوعا على أفضل الصفات التي تتألف له الناس فيألفونه، ومنها التواضع، ولين الجانب. فلم يتعال على أحد قط في جاهليته ولا في إسلامه، وكان في خلافته أظهر تواضعا منه قبل ولايته الخلافة. فإذا مدحه مادح قال: اللهم أنت أعلم مني بنفسي، وإذا سقط منه خطام ناقته وهو راكب نزل منها ليأخذه، ولم يأمر أحدا بمناولته إياه. وبلغ من بغضه الخيلاء أنه كان يبغضها حتى حيث يغتفرها الناس من ربات الحجال. فدخل يوما على السيدة عائشة رضي الله عنها وهي تمشي وتنظر إلى ذيل ثيابها فقال: يا عائشة! أما تعلمين أن الله لا ينظر إليك الآن؟ قالت: ومم ذلك؟ قال: أما علمت أن العبد إذا دخله العجب بزينة الدنيا مقته ربه عز وجل حتى يفارق تلك الزينة؟ فلما نزعت تلك الزينة التي أعجبتها فتصدقت بها قال: عسى ذلك يكفر عنك.
ولم يكن تألفه الناس محض مجاملة باللسان مما يستهله معظم المشهورين بالتودد والمجاملة، ولكنها كانت ألفة النجدة والكرم والسخاء، فكان كما قال ابن الدغنة لقريش، وقد هم أبو بكر أن هجر بلده: «أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟»
فهو ودود كريم لا يضن بماله وجاهه في سبيل الكرم والسخاء.
ومع هذه المودة وهذه الألفة كانت فيه حدة يغالبها، ولا يستعصي عليه أن يكبح جماحها. ووصف بها نفسه ووصفه بها أقرب الناس إليه وأصدقهم في وصفه. فقال في خطبة من أوائل خطبه بعد مبايعته: «... اعلموا أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني ...»
وقال عمر بن الخطاب: «وكنت أداري منه بعض الحد - أي الحدة - وذلك حين أعد كلاما يقوله في سقيفة بني ساعدة، مخافة أن يحتد أبو بكر في ذلك المقام.»
وسئل عنه ابن عباس فقال: «كان خيرا كله على حدة كانت فيه.»
إلا أنها كانت حدة تنم على سرعة التأثر فيه، فإذا لم تكن غضبا يغالبه ويكبحه فهو سريع التأثر إلى الرحمة والرفق في جملة أحواله، يميل إلى الحزن والأسى ويعطف على الحزين والأسوان، أو كان كما وصفته عائشة رضي الله عنها: «غزير الدمعة، وقيذ الجوانح، شجي النشيج» ... «أسيفا متى يقم مقامك - تخاطب رسول الله - لا يسمع الناس.» •••
وكان في جاهليته وإسلامه وقورا جميل السمت يغار على مروءته ويتجنب ما يريب، فلم يشرب الخمر قط؛ لأنها مخلة بوقار مثله، وسئل: لم كان يتجنبها في الجاهلية. فقال: «كنت أصون عرضي وأحفظ مروءتي، فإن من شرب الخمر كان مضيعا في عقله ومروءته»، ومن مروءته أنه كان يتقي كل ما يورده موارد الشبهات. دعاه رجل في الجاهلية أن يستصحبه لحاجة يعينه عليها، فرآه يمر في طريق غير التي يمر منها فسأله: أين تذهب هذه الطريق؟! ... قال الرجل: إن فيها أناسا نستحي منهم أن نمر عليهم. قال رضي الله عنه: تدعوني إلى طريق نستحي منها؟ ما أنا بالذي أصاحبك.
وكان لمروءته يتحاشى السقط من الكلام، فلا يتكلم إلا أن يدعوه داع إلى قولة خير فيقولها إذن ويصدق في مقاله. ومن وصاياه لبعض عماله: «إذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا.»
وقد اشتهر بالصدق في الجاهلية والإسلام، فكان «ضامن» قريش المقبول الضمان. لا يعد أحدا إلا وفى وصدق الدائن والمدين. ووكلت إليه الديات والمغارم فلم يكن يحمل شيئا منها إلا اطمأن إليه الناس، فإن احتملها أحد غيره خذلوه ولم يصدقوه.
Неизвестная страница