ونقول إن الأمرين أعانا النبي على أسلوبه المبلغ البليغ ولا نقول إنهما أنشآه وأوحياه ... فإن الحوار القليل الذي حفظ لنا من أيام الدعوة الأولى قبل استفاضة الدين وإقبال الأتباع المؤمنين فقد كانت له صبغة هذا الأسلوب بعينه غير ظاهر فيها أثر من الكلفة والاصطناع، لأن مصدر الفحولة في الإبلاغ ثقته بقوله لا ثقة المستمعين إليه، فكلامه، كله نسق واحد في هذه الخصلة، وخطابه كله خطاب سهولة وكرامة. وسياقه كله مطواع لا احتيال فيه، ووصاته لمن يقتدي به أن يقصر الخطبة ويقل الكلام كما كان يقول لمن يبعث بهم من الولاة.
ولا يفهمن من هذا أن مقتضيات الكلام لم يكن لها أثر في اختلاف الوضع أو اختلاف الموقف وهو يخاطب الناس، فقد كان عليه السلام يلاحظ هذا الاختلاف ويعطيه حقه كما كان يفعل حين يتكئ على قوس وهو يخطب في الحرب، أو يتكئ على عصا وهو يخطب في العظات، وكان يبدو على وجهه ما يختلج بصدره إذا غضب أو أنذر «فكان إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش: صبحكم مساكم» ...
أسلوب عصري
ولمن شاء أن يحسب أسلوب النبي - كتابة وخطابا - أسلوبا عصريا يقتدي به المعاصرون في زماننا هذا وفي كل زمان ... لأن الأسلوب الذي يخرج من الفطرة المستقيمة هو أسلوب عصري في جميع العصور، ويخطئ من يحسب الوصل بين الجمل شرطا للكلام العربي القديم والفصل بينها علامة من علامات الأساليب المبتدعة في الزمن الأخير، ويخطئ كذلك من يحسب قبول الكلام لإشارات الترقيم علامة أخرى من علامات هذه الأساليب، فإليك الحديث الذي نقلناه آنفا وهو مثل من أمثلة كثار حيث يقول عليه السلام: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط: قضاء الله حق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.»
هذا الحديث رضى البلاغة العربية في وصله وفصله، ورضى الأسلوب العصري في إشارات ترقيمه، وآية على خطأ الذين يفرقون بين شروط البلاغة العربية ذلك النحو من التفريق.
رأي النبي في الشعر
وقد نقلت إلينا تعقيبات معدودة عن رأي النبي في الشعر والشعراء لا تدخل في النقد الفني وتدخل في كلام الأنبياء الذين يقيسون الكلام بقياس الخير والصلاح والمطابقة لشعائر الدين وسنن الصدق والفضيلة، ومنها قوله: «أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد: «ألا كل شيء ما خلا الله باطل».» وقوله عن امرئ القيس إنه صاحب لواء الشعراء إلى النار، وإنه كان يتمثل بشطرات من أبيات يبدل وزنها كلما أمكن تبديله مع بقاء المعنى المقصود، فكان يقول مثلا: «ويأتيك بالأخبار من لم تزود» لأنها لا تقبل التبديل مع بقاء المعنى، ولكنه إذا نطق بقول سحيم عبد بني الحسحاس: «كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا» قدم كلمة الإسلام فقال: «كفى الإسلام والشيب للمرء ناهيا» لينفي ما استطاع أنه شاعر ينظم القصيد وأن سور القرآن قصائد مرتلات كما زعم المشركون.
وقد استحسن ما قيل من الشعر في النضح عن الإسلام والذود عنه وعن آله، فكانت آراؤه هذه وشبيهاتها آراء الأنبياء فيما يحمدون من كلام، لأنهم قد بعثوا لتعليم الناس دروس الخير والصلاح، ولم يبعثوا ليلقنوهم دروسهم في قواعد النقد والإنشاء.
جوامع الكلم
إلا أن الإبلاغ أقوى الإبلاغ في كلام النبي هو اجتماع المعاني الكبار في الكلمات القصار، بل اجتماع العلوم الوافية في بضع كلمات وقد يبسطها الشارحون في مجلدات.
Неизвестная страница