Абдель Рахман Кавакиби
عبد الرحمن الكواكبي
Жанры
وإن الكواكبي نفسه ليعفي القراء والنقاد من مئونة الظن في اقتباسه واطلاعه على وصف الاستبداد وعوارضه الاجتماعية في كتب غيره، فإنه قد ذكر ذلك في كلامه، وتبرع به دون أن تدعوه الضرورة إلى ذكره، فكل ما يفهم من قراءة «طبائع الاستبداد» أن صاحبه على علم واطلاع في موضوعه، وتلك بداهة لا حاجة إلى التنبيه إليها؛ إذ كان من الغفلة أن يطالب الكاتب بالتأليف في موضوع لم يكن على علم به واطلاع فيه.
أما أن يكون الاقتباس على مثال ما نسميه بالسرقة المقصودة، فذلك إسراف في الظن لا مسوغ له، سواء رجعنا بالمعارضة والمضاهاة إلى الكتب التي سرد الكواكبي أسماءها أو إلى الكتب التي أفاضت في هذا الموضوع ولم يكن في وسعه أن يطلع عليها أو يسمع بأسمائها.
قال الكواكبي: «لا خفاء أن السياسة علم واسع جدا يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يتحكك فيه، وقد وجد في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطرادا في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب، ولا تعرف للأقدمين كتب مخصوصة في السياسة لغير مؤسسي الجمهوريات في الرومان واليونان، وإنما لبعضهم مؤلفات سياسية أخلاقية ككليلة ودمنة ورسائل غوريغوريوس، ومحررات سياسية دينية كنهج البلاغة وكتاب الخراج، وأما في الشئون المتوسطة فلا تؤثر أبحاث مفصلة في هذا الفن لغير علماء الإسلام، فهم ألفوا فيه ممزوجا بالأخلاق كالرازي والطوسي والعلائي وهي طريقة الفرس، وممزوجا بالأدب كالمعري والمتنبي وهي طريقة العرب، وممزوجا بالتاريخ كابن خلدون وابن بطوطة وهي طريقة المغاربة.
أما المتأخرون من أهل أوروبة ثم أمريكا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيرا وأشبعوه تفصيلا، حتى إنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية وسياسة خارجية وسياسة إدارية وسياسة اقتصادية وسياسة حقوقية إلى آخره، وقسموا كلا منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع، أما المتأخرون من الشرقيين فقد وجد من الترك كثيرون ألفوا في أكثر مباحثه تآليف مستقلة وممزوجة؛ مثل أحمد جودت باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والمؤلفون من العرب قليلون ومقلون، والذين يستحقون الذكر منهم فيما نعلم رفاعة بك، وخير الدين باشا، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني ...» •••
ومن أيسر نظرة يدرك القارئ المطلع أن الكواكبي أراد أن يسرد بعض الشواهد على مبلغ اهتمام الأقدمين والمحدثين بعلوم السياسة ومباحثها، ولم يرد أن يستقصي مراجع الاطلاع في هذه العلوم والمباحث ولا مراجع الاقتباس منها في «طبائع الاستبداد».
ولو أنه قصد إلى الاستقصاء لما فاته أن يذكر من كتب الأقدمين أهم ما كتبه فلاسفة اليونان وأفضله في بابه، وهما كتاب الجمهورية لأفلاطون وكتاب السياسة لأرسطو، وليس هذا ولا ذاك من رؤساء الجمهوريات، ولا فاته أن يذكر الماوردي صاحب «الأحكام السلطانية»، أو بدر الدين بن جماعة صاحب «تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام»، أو ابن تيمية صاحب «السياسة الشرعية»، أو محمد بن علي بن طباطبا صاحب «الفخري في الآداب السلطانية»، أو ابن حمدون صاحب «التذكرة في السياسة والآداب الملكية»، وغيرهم وغيرهم ممن صنفوا وألفوا في هذه المباحث، ولا يفوت المؤرخ ذكرهم في مقام الاستقصاء.
ولا يلزم أن يكون الكواكبي قد اطلع على كتب المؤلفين الذين ذكرهم في مقدمة «طبائع الاستبداد»، وإنما نرجح أن بعض هؤلاء المؤلفين كان يستدعيه إلى قراءته بإغراء من سيرته ومناسبات تأليفه، فمن الصعب على باحث كالكواكبي يعرف التركية أن يعرض عن قراءة «أحمد جودت» الصدر الأعظم الذي بلغ من عنايته بالعربية أن يؤلف في نحوها وبلاغتها ويعقب على التفسيرات القرآنية فيها، ولم يكن أروج من مصنفاته بين أدباء الترك والعرب بعد وفاته في أواخر القرن التاسع عشر «1895» ... ومن الصعب كذلك على كاتب مثله يعرف الفارسية أن يعرض عن قراءة العلائي الملقب بالمحقق الثاني «1463-1534» وهو المستشار الأمين المأمون للشاه طهماسب بن إسماعيل الصفوي الذي ينتسب والكواكبي إلى أسرة واحدة، ولكننا نراجع هؤلاء المؤلفين ونراجع غيرهم من المذكورين في مقدمة «طبائع الاستبداد» فنعلم أنهم مؤرخون يروون أخبار الدول والحكومات، ويعقبون على عهود السلاطين والأمراء، ويتحدثون عن العدل والظلم وعن العادلين والظالمين في سياق هذه الأخبار، أو نعلم أنهم من فلاسفة السياسة الذين يفصلون القول في أوضاع الحكم ودساتير الديمقراطية والنظم النيابية، أو أنهم ناصحون من حكماء الدين والمعرفة يوصون بالخير ويحذرون من الشر ويعظون الساسة بما ينبغي وما لا ينبغي في حق الله وحق الرعية، ولم يستخرج أحد من كتبهم مبحثا مفصلا في تحليل عناصر الاستبداد، وتفسير عيوبه وأعراضه وآثاره في طوائف الرعايا على تعدد أطوارها وشواغلها، كهذا المبحث الذي استوحاه الكواكبي من تجاربه ودراساته ونظراته وتأملاته، ولا يعود الفضل فيه إلى غير فطنته وابتكاره واستقلاله بفهمه وصحة نظره، فإن هذه المطالعات قد اطلع عليها المئات كما اطلع عليها الكواكبي، ولم يستخرجوا منها الكتاب الذي انفرد به ولم يسبقه أحد إليه.
وإنما يصدق وصف الاقتباس على مؤلف واحد لم يذكره الكواكبي في المقدمة، ولكنه ذكره واستشهد به في كلامه على التخلص من الاستبداد: «فتوريو ألفييري»، الذي أردف اسمه بنعت المشهور في قوله: «لهذا أذكر المستبدين بما أنذرهم به ألفييري المشهور حيث قال: لا يفرحن المستبد بعظيم قوته ومزيد احتياطه، فكم من جبار عنيد جندله مظلوم صغير؟!»
ولا بد أن يكون هذا المؤلف هو المقصود فيما رواه صاحب المنار عمن ينسبون أفكار الكواكبي إلى «فيلسوف إيطالي» معروف، فإنه صاحب أشهر كتاب عن الاستبداد ظهر في أواخر القرن الثامن عشر «1777»، وشاع بعد ذلك أيما شيوع بين أيدي الثوار الإيطاليين، ولا سيما جماعة الكربوناري - الفحامين - الذين أسسوا جماعتهم السرية معارضة لجماعة البنائين أو الماسون، وتسرب أعضاؤها إلى كل مكان يغشاه الإيطاليون في موانئ البحر الأبيض ومدن الشرق الأدنى، ومنها مدينة حلب التي كانت «مركزا مهما» لتجار البندقية والمتكلمين باللغة التوسكانية، وآوى إليها كثير من المثقفين والمهاجرين السياسيين منذ راجت فيها حركة التجارة على طريق الهند والأقطار الآسيوية.
وبين «الكواكبي» و«ألفييري» شبه قريب في السيرة والمنزع وظروف الحياة، فكلاهما تعود الرحلة في طلب المعرفة بأحوال الأمم، وكلاهما اضطر إلى الكتابة في ظل الرقابة، وكلاهما نزل مختارا أو مضطرا عن ثروته وعتاده، وزاد «ألفييري» فأسلم ما بقي له في الثروة إلى أخته لتسلمه منها نفقته التي يحتاج إليها، رغبة منه في التفرغ للرحلة والكفاح بالقلم والدعوة اللسانية.
Неизвестная страница