Абдель Рахман Кавакиби
عبد الرحمن الكواكبي
Жанры
سيرة ممهدة
الكتاب الأول
1 - مدينة
2 - العصر
3 - أسرة الكواكبي
4 - النشأة
5 - ثقافة الكواكبي
6 - أسلوب الكواكبي
7 - المؤلف
8 - الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية
Неизвестная страница
9 - أم القرى
10 - طبائع الاستبداد
11 - شخصية مكونة
12 - في مصر
الكتاب الثاني
13 - برنامج إصلاح
14 - الدين
15 - الدولة
16 - النظام السياسي
17 - النظام الاقتصادي
Неизвестная страница
18 - التربية القومية
19 - التربية المدرسية
20 - الأخلاق
21 - وسيلة التنفيذ
خاتمة المطاف
سيرة ممهدة
الكتاب الأول
1 - مدينة
2 - العصر
3 - أسرة الكواكبي
Неизвестная страница
4 - النشأة
5 - ثقافة الكواكبي
6 - أسلوب الكواكبي
7 - المؤلف
8 - الجامعة الإسلامية والخلافة العثمانية
9 - أم القرى
10 - طبائع الاستبداد
11 - شخصية مكونة
12 - في مصر
الكتاب الثاني
Неизвестная страница
13 - برنامج إصلاح
14 - الدين
15 - الدولة
16 - النظام السياسي
17 - النظام الاقتصادي
18 - التربية القومية
19 - التربية المدرسية
20 - الأخلاق
21 - وسيلة التنفيذ
خاتمة المطاف
Неизвестная страница
عبد الرحمن الكواكبي
عبد الرحمن الكواكبي
تأليف
عباس محمود العقاد
سيرة ممهدة
بدأت بحثي في سيرة الكواكبي فرأيت أن أعود إلى تاريخ «حلب»؛ لأعرف الكواكبي من المدينة التي نمته وأنشأته، وأعرف من تواريخها وأحوالها أين تقع المزية التي كان لها الفضل في نشأته وتفكيره والاتجاه به إلى وجهة حياته.
ويعلم قراء العربية أن مدينة حلب إحدى المدن «المخدومة» من الناحية التاريخية بين مدن الشرق العربي القريب، ونعني «بالمخدومة» معناه في اصطلاح العرف الحديث؛ ومعناها في هذا الاصطلاح أنها مدينة لقيت من يخدمون تاريخها من أبنائها والنازلين بها من العرب وغير العرب، فكتبوا عن حوادثها وعهودها ومعالمها وأعلامها وطبيعة إقليمها وخيرات أرضها ما لم يتفق نظيره لغير القليل من مدن العالم القديم، فلم يفتهم من تسجيلاتها شيء توافر لمدينة غيرها، وما فاتها في هذا الباب فهو الذي فات المؤرخين الأقدمين أن ينظروا إليه على عادتهم في تسجيلاتهم ومحفوظاتهم عن كل مدينة وكل زمن، لا حيلة فيه للمؤرخ الحديث غير إتمام الرواية والخبر بالتفسير والتقدير.
إلا أنني رجعت إلى تاريخها في هذه المرة لأعرف «الكواكبي» غاية المعرفة التي تستطاع من العلم بموطنه وماضيه، فلم أفرغ من مرجع واحد حتى تمثلت لي المزية التي بحثت عنها، وبدا لي أنها كافية وحدها ولو لم تشفعها مزية أخرى!
حلب مدينة حل وترحال غير منقطعة عن العالم، ولم تنفصل قط عن حوادثه وأطواره، كأنها المرقب الذي تنعكس فيه الأرصاد فلا تخفى عليه خافية، ولا ينعزل بينها عن دانية ولا نائية.
ولم أرني أخوض بعيدا من الضفة في هذا البحر الزاخر بالأخبار والأنساب؛ لأعلم من أمر أسرتي وبلدتي أن أسوان لم تنفصل في عصر الكواكبي خاصة عن حلب، على ما بين البلدتين من بعد المسافة بحساب الفراسخ والأميال.
Неизвестная страница
إن أجدادي - لوالدتي - سلالة كردية تفرعت أصولها زمنا بين ديار بكر وأورفة ومرعش، ورأيت آخر من لقيته منهم يلبس العمامة الخضراء كما يلبس الطربوش العثماني والقلنسوة الكردية، ولم يزل بيت أخوالي في البلدة يعرف ببيت الشريف، ويسجل في مكاتب البرق بهذا العنوان.
وكنت أسأل كبراء السن منهم مازحا: من أين لكم هذا الشرف وأنتم سلالة أكراد؟ فكانوا يذكرون لي قصة طويلة عن اتصالهم بالمصاهرة بمن جاورهم من آل البيت في مدن الإيالة، ويذكرون جيدا كل صلة لهذه المدن بعواصم الإيالات مع ارتباك العلاقة يومئذ بين الديار الكردية وعواصم الإيالات العثمانية، تارة إلى حلب وتارة إلى العراق.
وأقرأ في الكتب الأوروبية على الخصوص أحاديث شتى عن «الرءوس الخضر» في حلب، أولئك الذين يلبسون العمامة الخضراء ممن ينتسبون إلى آل البيت من جانب الآباء أو جانب الأمهات، ومن هؤلاء أكراد أمهاتهم عربيات.
وتنتسب إلى هذه الطائفة من لابسي العمامة الخضراء أسرة أسوانية أخرى، مضى على وفود كبيرها من موطنه أكثر من مائة سنة، وأذكره في أخريات أيامه بعمامته الخضراء وموكبه من أتباع الطرق الصوفية التي تتشعب فروعها في البلاد العربية والتركية، وهو مع اشتغاله بالتصوف تاجر ناجح ورأس أسرة ناجحة ينتمي إليها اليوم الطبيب والمحامي والموظف والتاجر ومالك العقار.
وقد وفد العسكريون والمدنيون من أصحاب هذه العمائم إلى الصعيد بعد ثورات دامية في ولاية حلب على ولاتهم الترك الذين أجلاهم جيش إبراهيم باشا عن الولاية بعد قليل، فلما أعيدت هذه الولاية إلى الدولة التركية تعذر مقامهم فيها؛ فعادوا مع الجيوش المصرية، وأقام بعضهم في الصعيد وبعضهم في السودان.
ولعل «عبد الرحمن الكواكبي» الذي ولد بعد هذه الحوادث بسنوات قلائل، كان يتحدث في صباه بحديث واحد عن نقابة الأشراف التي ادعاها غير أهلها في القسطنطينية، وعن حكام الترك الذين انتزعوا مناصب أبناء الوطن في الديار الكردية؛ وهو الحديث الذي ردده هؤلاء المهاجرون الحريصون على شارتهم وشارة أهليهم في بلادهم، وظلوا يرددونه على وتيرته حتى سمعناه منهم مرات!
ولو أن إنسانا يختار لنفسه رسالته ومولده لما اختار عبد الرحمن مولدا أصلح للرسالة التي نهض بها من مدينة حلب: مدينة تتصل بالحوادث وتتصل الحوادث بها، هذا الاتصال. •••
إنني علمت من تجربتي في قراءة التراجم وكتابتها أن النوابغ من أصحاب الرسالات فئتان: فئة تظهر في أوانها؛ لأن أسباب نجاحها تمهدت، وتم لها النجاح قبل فوات ذلك الأوان.
وفئة أخرى تظهر؛ لأن الحاجة إليها قد بلغت غايتها، وهي التي تظهر لتحقق تلك الحاجة التي تبحث عن صاحبها، وله منها معين يذلل صعابها ويهدي إلى طريقها.
والكواكبي نموذج عزيز المثال لأولئك النوابغ أصحاب الرسالات الذين اتفقت لهم أسباب زمانهم ومكانهم وأسباب نشأتهم ودعوتهم، تكاد سيرته أن تغري بالكتابة فيها؛ لأنها «تطبيق» محكم لتراجم هذه الفئة من نوابغ الدعاة.
Неизвестная страница
تهيأت له البيئة وتهيأ له الزمن، وتهيأت له الرسالة، فلا حاجة بكاتب السيرة إلى غير الإشارة القريبة والدلالة العابرة، وهناك فانظر ... ها هو ذا صاحب الدعوة قائما حيث ترى من حيث نظرت إليه.
ولو لم تكن للسيرة من موجباتها غير هذا الإغراء لكان ذلك حسبها من وجوب عند كاتبها وقارئها، ولكنها سيرة يوجبها الفن للفن، ويوجبها التاريخ للتاريخ، ويوجبها علينا أنها حق لصاحبها، وقدوة صالحة لمن يقتدي به في دعوته الباقية ...
وإن لها لبقية متجددة بين أبناء اللسان العربي في كل جيل.
عباس محمود العقاد
الكتاب الأول
الفصل الأول
مدينة
(1) مدينة عربية عريقة
ولد عبد الرحمن الكواكبي ونشأ في مدينة عربية عريقة، هي حلب الشهباء.
وقد عرفت المدينة باسمها هذا - مع بعض التصحيف - منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد؛ فورد اسمها في أخبار رمسيس الأكبر، وورد بين أخبار حمورابي في القرن السابع عشر قبل الميلاد، وورد في أخبار شلمنصر «858-824» ... وورد خلال هذه القرون في كثير من الحفريات والآثار التي تتصل بتواريخ الحيثيين والعمالقة من الشمال إلى الجنوب.
Неизвестная страница
ولا يعرف على التحقيق مبدأ بنائها وإطلاق هذا الاسم عليها، ولكنها - كيفما كانت التواريخ المروية - أقدم ولا شك من كل عهد وردت أخباره في تلك الروايات؛ لأن قيام مدينة في موقعها ضرورة أحق بالتصديق من أسانيد المؤرخين وأساطير الرواة؛ لأنها في مكان توافر فيه كل شرط من شروط المدينة العامرة؛ من خصب التربة وسعة المكان واتصال الطريق بين موقع العمران وقوافل التجارة ومسالك الفاتحين أو معاقل المتحصنين المدافعين، ولا غنى عن مدينة في مكانها للانتفاع بموارد الزرع والبيع والشراء، وتنظيم الإدارة الحكومية في جوارها، وتبادل المعاملات فيما حولها، وتأمين المواصلات بينها على تعدد الحكومات أو وحدتها.
فالمدينة التي ينبغي أن تقوم في هذا المكان حقيقة تاريخية غنية عن سجلات التاريخ، وقد يخطئ بعض المؤرخين في بيان السنة أو الفترة التي بنيت فيها؛ لأنه يخلط بين بنائها الأخير بالنسبة إليه وبنائها الأول قبل ذلك بقرون؛ إذ كانت موقعا معرضا فيما مضى للزلازل، معرضا للغارات والمنازعات، يبني ويهدم آونة بعد أخرى، ولكنه يسرع إلى العمار ولا يطول عليه الإهمال، وقد فطن بعض المؤرخين إلى ذلك فيما نقله ابن شداد حيث يقول: «... وهذا يدل على أن سلوقوس بنى حلب مرة ثانية، وكانت خربت بعد بناء بلوكرش، فجدد بناءها سلوقوس، فإن بين المدتين ما يزيد على ألف ومائتي سنة.»
1
ومما يدعو إلى اللبس في تصحيح أقوال المؤرخين عنها أنها سميت بأسماء أخرى أو ذكرت باسم «قنسرين» على سبيل التغليب والمجاورة للتعميم بدل التخصيص، ومن أسمائها عند اليونان اسم «برية» الذي أطلقوه عليها كعادتهم في إطلاق أسماء بلادهم على المدن التي يدخلونها.
ولكن اسم «حلب» أقدم من هذه الأسماء جميعا، وأقرب إلى طبيعة المكان وإلى اللون الذي سميت من أجله ب «الشهباء»، وهو لون أرضها ولون الحوار الذي تطلى به مبانيها.
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان:
حلب مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات، طيبة الهواء، صحيحة الأديم والماء، وهي قصبة جند قنسرين في أيامنا هذه، والحلب في اللغة، مصدر قولك: حلبت أحلب حلبا ... قال الزجاجي: سميت حلب لأن إبراهيم - عليه السلام - كان يحلب فيها غنمه في الجمعات ويتصدق به، فيقول الفقراء: حلب حلب، فسمي به.
قال ياقوت:
وهذا فيه نظر؛ لأن إبراهيم - عليه السلام - وأهل الشام في أيامه لم يكونوا عربا، إنما العربية في ولد ابنه إسماعيل - عليه السلام - وقحطان. على أن لإبراهيم في قلعة حلب مقامين يزاران إلى الآن، فإن كان لهذه اللفظة أصل في العبرانية أو السريانية لجاز ذلك؛ لأن كثيرا من كلامهم يشبه كلام العرب لا يفارقه إلا بعجمة يسيرة كقولهم: «كهنم» في جهنم ...
إلى أن قال:
Неизвестная страница
وذكر آخرون في سبب عمارة حلب أن العماليق لما استولوا على البلاد الشامية وتقاسموها بينهم استوطن ملوكهم مدينة عمان ومدينة أريحا الفور، ودعاهم الناس الجبارين، وكانت قنسرين مدينة عامرة، ولم يكن يومئذ اسمها قنسرين وإنما كان اسمها صوبا ...
وقد أصاب ياقوت في ملاحظته الأولى؛ فإن لغة إبراهيم - عليه السلام - لم تكن عربية، ولم تكن العربية كما تكلمها أهلها بعد ذلك معروفة في عصره، ولكنه أصاب كذلك في ملاحظته الثانية؛ إذ خطر له التشابه بين ألفاظ اللغات واللهجات التي شاع استعمالها في بطحاء حلب قبل الميلاد بأكثر من عشرة قرون، فإن الآرامية - عربية ذلك العصر - قريبة بجميع لهجاتها إلى العربية الحديثة، وتفيد كلمة «حلبا» فيها معنى البياض، ومنه لون اللبن الحليب؛ بل يرجح الكثيرون أن اسم «صوبا» الذي ذكر ياقوت أنه كان يطلق على قنسرين؛ إنما يعني «الصهبة» التي تقرب من الشهبة في لفظها ومعناها، وكانت حلب توصف بالشهباء وتشتهر بالصفة أحيانا، فيكتفي بها من يذكرونها دون تسميتها، وورد اسم مدينة صوبا غير مرة في أسفار العهد القديم، فرجح أناس من مفسريه أنها حلب، ورجح الآخرون أنها قنسرين، ولا يبعد إطلاق الاسم أحيانا على المكانين.
على أن الأمر الثابت من وقائع التاريخ أن الآراميين سكنوا هذه البقاع قبل عهد إبراهيم عليه السلام، وأن المدينة وما جاورها كانت عربية بالمعنى الذي نبحث فيه عن أصل العربية القديم ولا نقف فيه عند تاريخها الأخير، وقد ثبت أن أسلاف الآراميين غلبوا على هذه البقاع في عهد الملك سراجون قبل الميلاد بأكثر من عشرين قرنا، ولم تكن هنالك لغة أخرى يفيد فيها الحلب معنى البياض غير الأصول العربية الأولى. (2) ومدينة عامرة
والمدينة بموقعها وقدم عهدها مدينة حل وترحال، يقيم فيها من يقيم، ويتردد عليها من يتصرفون في شئون معاشهم من أبنائها وغير أبنائها، تعددت فيها أسباب المعاش من زراعة وصناعة وتجارة فلم تنحصر في مورد واحد من هذه الموارد، وكتب رسل
Russell - وهو ممن أقاموا فيها حقبة من القرن الثامن عشر - مجلدا ضخما عن تاريخها الطبيعي، فأحصى فيها ما يندر أن يجتمع في مدينة واحدة من محاصيل الغلات والفاكهة والخضر والأبازير والرياحين، ومن أنواع الدواب والماشية والطير والسمك، ومن خامات الصناعة للملابس والأبنية ومرافق المعيشة، فصح فيها ما يوجزه الكاتب العربي حين يجمل الوصف عن أمثالها فيقول: إنها مدينة خيرات.
وتكلم عنها ملطبرون صاحب الجغرافية العالمية التي ترجمها رفاعة الطهطاوي قبيل عصر الكواكبي، فقال بأسلوبه الذي ننقله بحرفه: «ولنبحث الآن عن أشهر الأماكن مبتدئين بالقسم الذي بجوار الفرات، وهو إيالة حلب، فنقول: إن المدينة المسماة بهذا الاسم هي كما في كتاب البوزنطيا «برة» القديمة، وهي أعظم جميع المدن العثمانية في آسيا، سواء بتأدب أهلها أو بعظمها وكثرة أموالها وغناها، وظن بعضهم أن أهلها لا يزيدون عن مائة وخمسين ألف نفس، ومبانيها من الحجر النحت، كما أن طرقها السلطانية مبلطة به أيضا، ومنظرها عجيب لما فيها من أشجار السرو المظلمة الأوراق المباينة بالكلية لمنارتها البيضاء، فما أحسن اختلاط كل من الجنسين بصاحبه! وبها فابريقات القطن والحرير على حالة زاهية، وإليها تأتي القوافل العظيمة من بغداد والبصرة فتحمل إليها بضائع بلاد العجم والهند، وبالجملة مدينة حلب الشهباء ما يسميه المتأخر «تدمر» ورياضها مزروعة بالعنب والزيتون كثيرة الحنطة ...»
وملطبرون يفهم بالتقدير الذي سماه ظنا أن سكانها لا يزيدون على مائة وخمسين ألف نسمة، ولكن الرحالين والخبراء من الأوروبيين الذين أقاموا بها بين القرن السابع عشر والثامن عشر يبلغون بتعدادها نحو أربعمائة ألف نسمة، ويقول دارفيو
D’Arvieux
الذي كان قنصلا لفرنسا في المدينة بين سنة 1672 وسنة 1686: إن الطاعون أهلك من أهلها نحو مائة ألف، ولم يشعر طراق الأسواق فيها بنقص سكانها، وكان بعض المؤرخين لها يعولون في تقدير سكانها على إحصاء الموتى في الكنائس المسيحية، أو على مقادير الأطعمة اليومية التي تستنفد فيها، لاضطرارهم إلى الظن مع قلة الإحصاءات الرسمية، فراوحوا في حسابهم بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف في عامة التقديرات إلى نهاية القرن الثامن عشر، ثم تبين من الإحصاءات الأخيرة أنهم لم يخطئوا التقدير. (3) ومدينة اجتماعية
وهي مدينة يقوم عمرانها على «مجتمع ناضح» على خلاف المدن العامرة التي يقوم عمرانها على كثرة السكان، بغير اختلاف يذكر في كيانها الاجتماعي أو تركيب الطوائف التي تتألف منها المجتمعات السياسية.
Неизвестная страница
فالسكان فيها كثيرون، ولكنهم أصحاب مرافق وأعمال لا تستأثر بها صناعة واحدة، ولا تنفرد الصناعة الواحدة بينهم بنمط واحد على وتيرة واحدة، سواء اشتغلوا بالتجارة التي يعمل فيها التاجر المحلي وتاجر القوافل وتاجر التصدير والتوريد، أو اشتغلوا بالزراعة التي يعمل فيها زارع الحقل وزارع البستان وزارع الخضر والأعشاب، أو اشتغلوا بالحرف اليدوية التي يعمل فيها النساجون والنجارون والحدادون والمختصون بفنون البناء وتعمير البيوت.
وفيما عدا هذا التركيب الاقتصادي يتنوع المجتمع في المدينة بائتلاف المذاهب والأجناس من أقدم الأزمنة قبل الإسلام وبعد الإسلام، وقلما يعرف مذهب من مذاهب الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو مذاهب الديانات الآسيوية لا تقوم له بيعة في حلب أو مزار مشهود مقدس عند أتباعه، وهي تتسع لأصحاب هذه المذاهب من العرب والترك والكرد والأرمن والأوروبيين، يتفاهمون أحيانا بلغة واحدة مشتركة، أو يتفاهمون بجميع هذه اللغات كلما تيسر لأحدهم فهم لغة أخرى غير لغته التي ولد عليها.
ولم تزل المدينة منذ القدم عرضة للمنازعات الدولية بين الفرس والإغريق، أو بين العرب والروم، أو بين المسلمين والصليبيين، أو بين أصحاب العقائد في الديانة الواحدة واللسان الواحد، وهي حالة لا تتكرر طويلا إلا تركت لها أثرين لا محيص منهما ولا مفر من التوفيق بينهما، فمن أثرها أن تزيد شعور الإنسان بعقيدته وحرصه على شعائره ومعالم دينه، ومن أثرها في الوقت نفسه أن تروضه على حسن المعاملة بينه وبين أهل جواره من المخالفين له في شعوره أو تفكيره، وهي رياضة عالية تعتدل فتبدو على أحسنها في السماحة الدينية ورحابة الصدر ودماثة الخلق وكياسة العشرة والمجاملة، وقد يجنح بها الغلو إلى مثال من الخلط بين العقائد والشعائر لا يعهد في بيئة لم تتعرض لتلك التجارب التاريخية، فقد روى دارفيو - المتقدم ذكره - أنه وجد في عين طاب «عينتاب» طائفة تسمى ال «كيزوكيز»؛ أي النصف والنصف، يصلون في المساجد ويحفظون القرآن ويعلقون المصاحف الصغار في أعناق أطفالهم، ويوجبون تعميد هؤلاء الأطفال وتقريب القرابين في المعابد المسيحية والذهاب إلى كرسي الاعتراف وإقامة الصلوات في عيد الميلاد وعيد القيامة. •••
ومن نتائج الائتلاف في المجتمع أن تتأصل في العادات خصال التعاون الاجتماعي، فتصبح المدينة العامرة معمرة قادرة على التعمير، ويكسب أبناؤها قدرة على تجديد عمرانها بعد الكوارث التي تنتابها كما تنتاب أمثالها من المدن على أيدي الفاتحين أو بفعل الزلازل والأوبئة التي كانت تنتشر في الشرق والغرب، فلا تسلم منها مدينة كثيرة الوراد والطراق يخرجون منها ويئوبون إليها بغير رقابة صحية على القواعد العلمية، وقد تمكنت حلب من تجديد عمرانها واستئناف علاقاتها ومعاملاتها مرات في مدى التاريخ المعروف منذ ثلاثة آلاف سنة، واستطاعت ذلك أربع مرات منذ القرون الوسطى إلى اليوم، ويشير ياقوت الحموي إلى خصلة التعمير والتأثيل في أهلها فيقول: «ولأهلها عناية بإصلاح أنفسهم وتثمير الأموال، فقل ما ترى من نشئها من لم يتقبل أخلاق آبائه في مثل ذلك؛ فلذلك فيها بيوتات قديمة معروفة بالثروة، ويتوارثونها ويحافظون على حفظ قديمهم بخلاف سائر البلدان.» (4) ومدينة سياسية
والمدينة الاجتماعية على هذه الصفة مدينة سياسية باختيارها وبما تنساق إليه من ضرورات تدبيرها وإصلاحها، فلا يسع إنسانا يقيم فيها أن يغفل عن السياسة التي تديرها ولا عن أحوالها التي تستقيم عليها شئونها المشتبكة أو يعتريها الخلل من جانبها، وربما حالت السيطرة المستبدة دون إطلاق الألسنة والأقلام في أحاديث هذه السياسة، ولكن المجالس التي تدور فيها الأحاديث بين أهلها لا تلبث أن تخلق لها منادح من القول المباح في باب النقد الاجتماعي، ولو قصرته على نقد الأحوال العامة وآداب العرف الشائعة، ولم تزد فيه على الحنين إلى الأيام التي كانت تخلو من عيوب هذه الأيام، أو على الثناء والذكرى لمن كانوا يسوسون الأمور سياسة لا يدركها الملام.
قال رسل في تاريخه الطبيعي لمدينة حلب - وهو يسمي المسلمين بالترك على عادة الأوروبيين في زمنه: «إنهم على احتجازهم في مسائل السياسة لا يقال عنهم إنهم سكوت صامتون، فإنهم يفيضون الحديث عن مسائل الديانة والآداب ومساوئ البذخ والترف، وشيوع الرشوة في الدواوين، وربما تحفظوا في الكلام على أخطاء الحكومة الحاضرة، ولكنهم ينحون على الأخطاء الماضية بغير هوادة، وسواء كان مجرى الحديث على هذه المسائل أو على أشباهها من المسائل الخلافية تراهم يحتدون في مساجلاتهم، ولا يطول الحوار بينهم دون أن يتطرق إليه الغضب حتى يفصل فيه صاحب الدار برأيه، إن كان من ذوي الصدارة، فيميل الأكثرون إلى الرأي الذي أبداه ...»
وإذا قيل هذا عن أواخر القرن الثامن عشر فالحالة السياسية في غير هذه الحقبة المظلمة لا تحتاج إلى بيان. (5) ومدينة متصلة
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن المدينة التي لها هذه العمارة وهذه العلاقات الاجتماعية على ملتقى الطرق المعبورة في القارات الثلاث لن تنقطع عن العالم في عهد من عهودها، ولن ينقطع العالم عنها.
إلا أن العلامات المحسوسة أوضح من الأحوال المفهومة في الدلالة على تمكن هذه الصلة وشدة الحاجة إليها، فمن هذه العلامات أن نقل الأخبار بالمشاعل والمصابيح كان معروفا في حلب قبل ستة وثلاثين قرنا كما يرى من ألواح «ماري» الأثرية التي كشفت بجوارها، أما في العصور الأخيرة فلم تخل حلب قط من الوسائل السريعة للانتقال أو نقل الأخبار، وحيثما وجدت وسيلة أسرع من سواها في قطر من الأقطار النائية لم تلبث أن تصل إلى حلب بعد قليل، وأن يفتن الحلبيون في استخدامها وتحسينها لزيادة السرعة فيها، فاشتهرت بالجمال السريعة التي نعرفها في وادي النيل باسم الهجين، واجتهد أصحاب القوافل بها في توليدها بين العربية والتركمانية؛ لتوريثها أحسن الصفات من فصائلها الممتازة، وانتظم فيها بريد الحمام الزاجل، وهو أسرع بريد عرفه الناس على المسافات البعيدة قبل استخدام البرق والبخار، ولكنهم في الخطوط التي تمتد من حلب وإليها، يحتاطون لعوائق الطريق فيغمسون أقدام الحمام في الخل ليشعر بالرطوبة في الجو، فلا يستدرجه الشعور بالعطش إلى الماء فينقطع عن السفر أو يسقط بين أيدي المترصدين له في الطريق. (6) ومدينة حساسة
وهذه العوامل المتأصلة جميعا قد بقيت إلى العصر الذي نشأ فيه الكواكبي وعاش فيه بين منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين؛ بل كانت كلها على حالة من النشاط والتحفز توصف «بالحساسية» المفرطة التي تضاعف انتباه المنتبهين إليها على غير المعتاد في سائر العصور.
Неизвестная страница
كانت مدينة حلب قبل مولده بسنوات جزءا من العالم العربي الذي كان يجمع الشام وفلسطين وطرفا من العراق والجزيرة العربية في نطاق واحد، وظلت كذلك بضع سنوات حتى أعيدت إلى الدولة العثمانية في سنة 1840 بعد تدخل الدول الأوروبية في حروب إبراهيم باشا والسلطان عبد المجيد.
وكانت فتنة الأرمن ومحنة لبنان وغارات الحدود بين العرب والترك في العراق شغلا شاغلا لأبناء حلب على الخصوص؛ لأنها المدينة التي يصيبها كل عطل ويرتد إليها كل اضطراب.
وكانت مسائل الامتيازات الأجنبية تثار كل يوم في أوروبة وفي الشرق العثماني، مع ما يتبعها من مسائل التشريع والإدارة التي تفرق بين الطوائف والأجناس في كل بقعة من بقاع الدولة التركية.
وكانت هذه الدولة تتقدم خطوة وتنكص على أعقابها خطوتين في طريق الحكم النيابي والإدارة العصرية واستبدال النظم الحديثة بالتقاليد البالية التي جمدت عليها منذ قرون.
وكانت قناة السويس تفتح، ومراكز الشركات تتحول من حلب شيئا فشيئا إلى القارة الأوروبية أو إلى شواطئ الهند وإيران وموانئ البحرين الأحمر والأبيض على طول الطريق.
كان كل عامل من عوامل الحياة الاجتماعية في حلب يتحرك ويتنبه ويبلغ به الانتباه حد الحساسية؛ بل حد الإفراط في الحساسية حين نشأ الكواكبي في هذه الحقبة المتوفزة، ووكل إليه القدر أن يكون لها لسان حال، فاستجاب لها في بيئته من حيث يستجيب أمثاله من الرجال.
الفصل الثاني
العصر
كيف نشأ الكواكبي في هذا العصر؟
كيف لم ينشأ الكواكبي في هذا العصر؟
Неизвестная страница
سؤالان لا يتردد المؤرخ بينهما، بعد ما تقدم، أيهما أحق بالتوجيه وأيهما أدعى إلى الاستغراب؟ فإن حوادث العصر وحوادث السيرة الكواكبية تشيران كلتاهما إلى الأخرى متقابلتين كما يتقابل العدلان المتلازمان.
ولد الكواكبي حول منتصف القرن التاسع عشر، وتوفى بعد ختامه بسنتين، فحياته على وجه التقريب هي النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ملتقاه بطلائع القرن العشرين، وهذه حقبة من حقب التاريخ الحديث يلوح عليها كأنها نشطت من عقال، فكل شيء فيها ينفر من الجمود والركود، ويتحفز للحركة والوثوب إلى التغيير.
كان هذا النصف الأخير من القرن التاسع عشر، في القارة الأوروبية، امتدادا لعصر الكشوف العلمية والنزعة الفكرية إلى التمرد على القديم، وكان حقبة عامرة بأسباب القلق والاندفاع إلى المجهول حيثما وجد الطريق، تمخضت عن أخطر مذاهب الفكر والأخلاق وأدعاها إلى الثورة والانقلاب، ولا نطيل في شرح المذاهب الخاصة بتلك الحقبة أو التي تعد من ولائدها ونتائجها، فإننا نطوي الكف على خمسة منها، فلا نستكثر بعدها أن يحدث في بقية القرن التاسع عشر كل ما حدث فيها من عظائم الأمور وعوامل الحركة والانقلاب.
في بقية القرن التاسع عشر شاع مذهب داروين عن التطور وتنازع البقاء، ومذهب كارل ماركس عن رأس المال، ومذهب نيتشه عن «السوبرمان» أو الإنسان الأعلى، ومذهب المدرسة الطبيعية عن حرية الفن والأدب، ومذهب الديمقراطية عن الحكومة الشعبية، وكل مذهب منها لا يستقر حيث ظهر على حال من أحوال الجمود والرضى عن التسليم والاستسلام.
ووصلت فتوح العلم إلى السوق والطريق؛ بل وصلت إلى الجهلاء الأميين أهول وأضخم من صورتها التي وصلت بها إلى العلماء الدارسين.
سمعوا الجراموفون «الحاكي» فقالوا: إن الإنسان ينطق الجماد.
وسمعوا عن البرق بأسلاكه وغير أسلاكه فجدد لهم خبر المردة المسخرين في نقل الأسرار بين السماء والأرض، وبين المشرقين والمغربين.
وسمعوا صوت الهاتف بعد أن شهدوا الصورة التي يرسمها لهم شعاع الشمس فكادوا يلحقونها بالخوارق والمعجزات.
وكبرت في أيامهم مخترعات الأمس، فأصبحت المطبعة والباخرة والبندقية أشباحا تطاول المردة، بعد أن كانت في الحقبة الغابرة ألاعيب أطفال أو أطفالا تتعثر بين المهود والحجور.
كذلك كان النصف الثاني من القرن التاسع عشر في ميدان الفكر والصناعة.
Неизвестная страница
أما ميدان العمل والحياة العامة فمجمل ما يقال فيه: إنه يتلخص في كلمتين تترددان بلسان المقال أو لسان الحال في كل أمة غالبة أو مغلوبة، ومتقدمة أو متأخرة، وحرة ناهضة أو متأهبة للحرية والنهضة، وهما: الحرية وحق الأمة.
ففي البلاد الإنجليزية كان سلطان الملوك يتقيد ويتبعه سلطان السادة النبلاء إلى القيد، ولم تهدأ فيها صيحة المطالبة بالمشاركة في الحكومة بين أصحاب الأموال وجماعات العمال، فكان العقد الثاني بعد منتصف القرن فاتحة العهد الذي برز فيه الأحرار وتمهدت فيه السبيل لطوائف العمال.
وفي البلاد الفرنسية قضت حرب السبعين على الإمبراطورية، وتحولت بالحكم إلى النظام الجمهوري على أساس المبادئ التي أعلنتها الثورة وتجاوبت بها أصداء العالم، وهي مبادئ الحرية والإخاء والمساواة.
وفي البلاد الألمانية ظفرت القومية المشتتة بالوحدة التي كانت تنشدها، واجتمعت الولايات التي كانت موطن المغيرين من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، فأصبحت قوة القارة التي يخشاها المغيرون!
وفي البلاد الإيطالية تجمعت تلك المتفرقات من قضايا العصر كله، ومنها قضية الاستقلال، وقضية الوحدة، وقضية السلطة الدينية، وقضية الحكومة الشعبية، فكانت - وهي تضطرب بجميع هذه القضايا - كأنها الحلقة الوسطى بين الغرب والشرق، وبين القارة الغالبة والقارات التي تشكو الغلبة عليها، فثارت إيطاليا قبل منتصف القرن تسترد الحرية من الدول الثلاث التي تنازعتها، وهي النمسا وفرنسا وإسبانيا.
وعند منتصف القرن ثارت على أمرائها الذين تنازعوها وفرقوا أرضها وأبناءها، وجمعت شملها في ظل رايتها الموحدة على رضاها، وفصلت الوطنية الإيطالية في قضية السلطة الدينية كما فصلت في قضية الملك والدولة، ثم فصلت في قضية الحكم فأقامتها على قواعد النيابة الشعبية، ولم ينقض القرن حتى دخلت في سباق الاستعمار؛ طامعة في أسلاب غيرها بعد أن كانت مطمعا للقادرين عليها من الغرباء عنها ومن أبنائها.
وقد توحدت إيطاليا بعد مجهودات كثيرة تفرقت مساعيها واتفقت قبلتها في النهاية، فكان الوطنيون المجاهدون يعملون جميعا على توحيدها والنهوض بها إلى مصاف الدول العظمى ويأنفون أن تكون بين جاراتها أقل منهم شأنا وأصغر منهن قدرا في مجال العلاقات الدولية، وهي أعرق منهن ماضيا وأقدم ثقافة، وموطن اللغات التي نبتت منه لغات اللاتين واقتبست منه سائر اللغات في أمم الحضارة ... إلا أنهم - مع هذا الاتفاق في الغاية - تفرقوا في الوسائل والمعايير السياسية، فأرادها فريق منهم «جمهورية حرة» تنال حريتها وتنشر مبادئ الحرية لغيرها، وعلى رأس هؤلاء المجاهدين حكيم إيطاليا ورائدها الأول يوسف ماتسيني، مؤسس «إيطاليا الفتاة» ثم مؤسس «أوروبة الفتاة»؛ إيمانا منه بأن الحرية في القارة الأوروبية شرط لا غنى عنه لدوام الحرية في بلاده.
وفريق آخرون يريدون بقاء الملكية على عرش واحد، أو يسمحون ببقائها إلى حين ريثما تتهيأ الفرصة لإقامة الجمهورية، وعلى رأس هؤلاء كافور الزعيم الوزير الذي كان يخالف الفريق الأول في سياسة الأحلاف الدولية، ويتبرع بإرسال الجيوش إلى القرم لمحاربة روسيا ومعاونة تركيا وإنجلترا وفرنسا، أملا في تأييد الدولتين الأخيرتين له في مساعيه الدولية، ويأسا من تأييد روسيا القيصيرية لقضية من قضايا الاستقلال والثورة على النظم الدولية العتيقة.
ويتوسط بين الفريقين فريق غاريبالدي الذي كان يستعين بالكتائب المتطوعة، كما كان يستعين بالجماعات السرية من قبيل جماعة الفحامين «الكربوناري»، ولا يرفض التعاون مع «إيطاليا الفتاة» كلما اتفقت الحملة على خصم واحد من خصومه وخصومها، ولكنه يتوجس من المحالفات الدولية ولا يؤمن بجدواها، ويكاد يقطع بتحريمها خوفا من مغارم المقايضة التي تجور على حقوق الدولة الناشئة كما تجور على أقاليمها ومواردها، ولا تعرف وسيلة من وسائل الأمم في جهادها لم يتوسل بها فريق من هؤلاء المجاهدين، ولم يتصل خبرها بطلاب الحرية في البلاد الشرقية؛ لانتشار الإيطاليين على شواطئ البحرين الأبيض والأحمر، وإقامتهم على طريق التجارة القديمة بين الهند والبندقية وجنوه، واشتراكهم من قبل الساسة والزعماء معا في حروب الدولة العثمانية.
ولا بد من الانتباه الدقيق إلى دخائل السياسة المزدوجة التي أملاها على الدولة الإيطالية وضعها الجديد بعد الاتفاق على توحيدها، فهي - من جهة - دولة أوروبية طامحة إلى مساواة الدول التي سبقتها في حلبة الفتح والسيادة، وهي من الجهة الأخرى أمة تشبه الأمم الشرقية في جهادها لدول القارة، وتتفق مع بعضها في مقاومة النفوذ العثماني وتشجيع الثورة عليه، ومن آثار هذه السياسة أن بيتها المالك كان على مودة «شخصية» ودولية تربط بينه وبين بيوت الحكم والرئاسة في أكثر الأقطار التي خضعت للسيادة العثمانية، فلما عزل الخديو إسماعيل جعل مقره الأول في البلاد الإيطالية، ولما هاجر الأمراء الإيطاليون من بلادهم في الحرب العالمية الأولى وبعد الحرب العالمية الثانية، كان اختيارهم لمصر مقدما على اختيارهم للرحلة إلى قطر من الأقطار الأوروبية، وكان ملك إيطاليا يتوسط أحيانا في الأزمات المستحكمة بين أمم المغرب ودولتي فرنسا وإسبانيا، كأنه يرى أن هذه الأمم تطمئن إليه وتتقبل منه ما لم تتقبله من الحكومات الأوروبية، وقد تطوع الإيطاليون بعد احتلالهم «إرتريا» لبذل المعونة ونقل السلاح إلى سواحل جزيرة العرب؛ لمقاومة المنافسين لنفوذها من الأوروبيين وغير الأوروبيين، وكانت لهم جالية قوية في المدن السورية تعرب عن تأييدها للأحرار والثائرين توددا لهم أو نشرا للدعوة التي نقلتها من بلادها في إبان نهضة التوحيد والحرية. •••
Неизвестная страница
هذه نبذة عاجلة عن حركات الغرب في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، أوجزنا فيها القول عن أمم أربع من أممها التي سرت أخبارها وأخبار قضاياها إلى الشرق العربي وبلاد الدولة العثمانية، وهي على تفاوتها في كل ظاهرة من ظواهر السياسة والثقافة تشترك في خصلة لا تغيب عن واحدة منها في خبر من أخبارها، وهي المطالبة بالحقوق والحريات.
فإذا كانت قارة الاستعمار قد حصرت خطتها حيال الشرق في سياسة واحدة تريدها وتتعمدها لتقهره وتتغلب عليه، فهناك سياسة أخرى لم تردها ولم تتعمدها، تلقاها الشرق منها، فهب لمقاومتها وتيقظ لمطامعها ونزل معها في ميدانها الذي استفزته له باختيارها وبغير اختيارها. •••
وقد جاء رد الفعل المنتظر بعد برهة من السبات والذهول من أثر الصدمة التي كانت تنتقل وتشتد، كلما تنقلت بين أقطار الشرقين البعيد والقريب من اليابان في أقصى الشرق الآسيوي إلى مراكش في أقصى الشرق الأفريقي، وقد أصبحت هذه «شرقا» في حساب الاستعمار وإن كانت تناوح في الموقع الجغرافي جارتها أوروبة الغربية.
ونقصر الكلام هنا على الشرق العربي كما كان في أواسط القرن التاسع عشر إلى ما بعد مولده بقليل، ففي تلك الفترة كانت مصر قد ظفرت بحصة كبيرة من الحكومية الذاتية، وكانت لبنان قد خرجت بعد الفتن والأزمات بنصيبها المقرر من الامتيازات الداخلية، وكادت جزيرة العرب تتفرد بالدعوة الوهابية وتوشك أن تمتد منها إلى قلب العراق، وكانت العراق في صراعها مع حكم المماليك تتقدم في خطى سراع إلى الخلاص من ذلك الحكم المضطرب بين الكساد والوباء، وعلمت الدولة العثمانية أنها تحتاج لاستبقائه وإعادة الأمن فيه إلى نظام من الحكومة الدستورية غير نظام الولايات المهملة أو الولايات المسخرة لسادتها على غير إرادتها، فأرسلت إليه أكبر وزرائها في عصره «أحمد مدحت باشا» الملقب بأبي الدستور، فأقام فيها نظام الحكم على أساس الحرية والمصلحة العامة على خير ما يستطاع في تلك الآونة، وافتتح فيها عهد الحياة العصرية التي وصلت بينها وبين أمم الحضارة.
وكانت ولاية حلب - مع سائر الولايات السورية - قد اتصلت بمصر زهاء سبع سنوات، ثم ثارت على حكم إبراهيم بن محمد علي سنة 1840، فأعيدت إلى الدولة العثمانية على وعد بالإصلاح وتنظيم الإدارة على أساس جديد، وكان الشروع في الإصلاح وتنظيم الإدارة حقيقة واقعة منذ قيام السلطان محمود الثاني «بين سنتي 1808 و1839»؛ لاضطرار الدولة أولا إلى إصلاح جيشها واضطرارها بعد ذلك إلى تسوية المشكلات القائمة بين رعاياها المختلفين في الجنس والدين واللغة، فإن الهزائم المتوالية أقنعت أولياء الأمر في القسطنطينية بالحاجة الملحة إلى تنظيم جيش جديد، تستخدم فيه الأسلحة الحديثة وأساليب التعبئة في الدول الأوروبية، ثم تبين لهم أن تعديل أنظمة القضاء والتشريع وإدارة الدواوين ضرورة لا محيص عنها لسياسة رعاياهم ومدافعة الدول الأوروبية التي كانت تتعلل بفساد الحكم في الدول التركية للتدخل في شئونها بدعوى الإنسانية تارة ودعوى الامتيازات الأجنبية تارة أخرى، فتحدث الناس بوعود الإصلاح وأعماله ومشروعاته وحقوق الرعية وواجبات الرعاة قبل مولد الكواكبي، كأنهم يتحدثون بدين يلويه المدين بين السداد والمطال.
ولعلنا ندرك حقيقة الحال ونعلم أن وعود الإصلاح كانت ضرورة لازبة، ولم تكن إنعاما ولا إحسانا من أولياء الأمور، إذا نظرنا إلى بقاع العالم العربي فلم نجد فيه بقعة واحدة رضيت بما هي فيه، ولم ينهض أهلها للمطالبة بنوع من الإصلاح على نحو من الأنحاء، فتحرك السودان وتحركت الصحراء وتحركت قبائل المغرب في ثورتها؛ بل في ثوراتها التي تكررت ولا تزال تتكرر إلى اليوم، وصدق على العالم العربي بين أطرافه المترامية قول القائلين في الغرب: إنه مارد خرج من القمقم ولن يعود إليه.
وكان في الحق ماردا هائلا يتململ في الأسر ليخرج من قمقمه المظلم المحصور، ولكنه لم يكن ماردا معصوب العينين كما صوره أولئك الراصدون للقمقم، أو كما أرادوا أن يتصوروه؛ إذ كان للمارد زمامه في أيدي الهداة من القادة الملهمين ومن رواد الثقافة الأولين، وكان لهذه الهداية بين المسلمين وغير المسلمين طابع الشرق الخالد منذ الأزل، طابع العقيدة والإيمان. •••
في القارة الأوروبية حكم التاريخ حكمه بعد النزاع القائم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، فوهم العلماء في مطلع الثقافة الحديثة أن هذه الثقافة حرب بين العلم والدين، فلما انتقلت ثقافة الغرب إلى الشرق تلقاها المسيحي في المدارس من رجال دينه، وتلقاها المسلم مستجيبا لنداء «العودة إلى الدين» على كل لسان يسمع منه الوعظ ويقبل منه الإرشاد، فقد وقر في الأخلاد أن المسلمين هجروا دينهم فحاق بهم بلاء الذل والضياع، واتفق الجامدون منهم على القديم والمتطلعون إلى الجديد على هذا النداء، فلا خلاف بينهم إلا على الرجوع إلى الدين كيف يكون.
وربما قال الجامدون قبل المجددين : إن الأوروبيين عملوا بأدب الإسلام فأعدوا العدة ونظروا إلى حكمة الله في خلقه فتقدموا وتأخر المسلمون.
وتباعدت الشقة بين المحافظين أنصار النص والحرف، وبين المجددين أنصار المعنى والقياس فاختلفوا على الكثير، ولكنهم مع اختلافهم هذا لم يتفقوا على شيء كما اتفقوا على حرب الخرافة وعقائد الجهل والشعوذة الدخيلة على الدين، فحاربها المحافظون الحرفيون؛ لأنها بدع مستعارة من بقايا الوثنية، وحاربها المجددون لأنها سخافات وأباطيل ينقصها العلم الحديث، وتراجعت هذه السخافات والأباطيل إلى غيابة الجهل، لا تجترئ على التقدم إلى صفوف القيادة المسموعة بين أنصار القديم ولا بين أنصار الجديد.
Неизвестная страница
كانت هذه الظاهرة النادرة إحدى حسنات التوفيق في صدر الدعوة إلى الإصلاح، وتلك ولا ريب إحدى العوامل القوية التي جعلت دعوة الإصلاح مهمة روحية ثقافية، وجعلت رجلا كالسيد جمال الدين الأفغاني داعيا مسموعا، حيثما حل في قطر من أقطار الشرق بين المسلمين العرب والفرس والهنود، وبين العرب المسلمين وغير المسلمين، وناهيك بإمام من الأفغان تصدر له صحيفة «مصر» ويحررها تلميذه «أديب إسحاق» وهو المسيحي الكاثوليكي من الأرمن العثمانيين.
تلك سمة العصر الذي قدمنا الكلام عنه بهذين السؤالين: كيف نشأ الكواكبي في هذا العصر؟ كيف لم ينشأ الكواكبي في هذا العصر؟ وقلنا إنهما سؤالان لا يتردد المؤرخ بينهما أيهما أحق بالتوجيه وأيهما أدعى إلى الاستغراب.
إن الكواكبي في أسرته ومنبته وزمنه - لوفاق الشرط الذي تتطلبه رسالته المنتظرة في هذا الشرق بين البلاد العربية - رجل مرشح للرئاسة الروحية، مضطهد في سربه وذماره، ينشأ في بلد عربي عريق يرتبط بعلاقات المشرق والمغرب وتلتقي لديه تيارات الحوادث العالمية، ويفتح عينيه على العالم وهو يصبح أو يمسي على قضية حق أو ثورة حرية، من وصفه فقد سماه، وكاد يصمد إليه ولا يتخطاه إلى سواه.
الفصل الثالث
أسرة الكواكبي
ينتسب الكواكبي من أبويه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وقد روى صاحب «إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء» نسب الأسرة نقلا عن كتاب «النفائح واللوائح من غرر المحاسن والمدائح» الذي ألفه السيد حسن بن أحمد بن أبي السعود الكواكبي، فجاء فيه أن السيد أحمد هو:
ابن أبي السعود بن أحمد بن محمد بن حسن بن أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى بن محمد بن أبي يحيى المعروف بالكواكبي قدس سره، ابن شيخ المشايخ والعارفين صدر الدين موسى الأردبيلي قدس سره، ابن الشيخ الرباني المسلك الصمداني صفي الدين إسحاق الأردبيلي ابن الشيخ الزاهد أمين الدين ابن الشيخ السالك جبريل ابن الشيخ المقتدي صالح ابن الشيخ قطب الدين أبي بكر ابن الشيخ صلاح الدين رشيد ابن الشيخ المرشد الزاهد محمد الحافظ ابن الشيخ الصالح الناسك عوض الخواص ابن سلطان المشايخ فيروز شاه البخاري بن مهدي بن بدر الدين حسن بن أبي القاسم محمد بن ثابت بن حسين بن أحمد ابن الأمير داود بن علي ابن الإمام موسى الثاني ابن الإمام إبراهيم المرتضى ابن الإمام موسى الكاظم ابن الإمام جعفر الصادق ابن الإمام علي زين العابدين ابن الإمام الحسين السبط الشهيد ابن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال صاحب «إعلام النبلاء» بعد اسم صدر الدين موسى الأردبيلي: «الذي رأيته في عمود نسبهم المحفوظ في بيت الموقت بعد محمد أبي يحيى بن صدر الدين إبراهيم الأردبيلي المنتقل إلى حلب ابن سلطان خوجه علاء الدين علي بن صدر الدين موسى الصفوي - فيكون قد سقط هناك شخصان - ابن السلطان صفي الدين أمين الدين جبريل، وهناك قد جعلهما شخصين، وباقي النسب كما هنا، والله أعلم.»
وروى في هذا المصدر نسبه لوالدته المتصل ببني زهرة، فجاء فيه أن «والدة أبي السعود الشريفة عفيفة بنت بهاء الدين بن إبراهيم بن بهاء الدين بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن محمد بن شمس الدين الحسن بن علي بن أبي الحسن بن الحسين شمس الدين بن زهرة أبي المحاسن بن الحسن بن زهرة أبي المحاسن بن علي أبي المواهب بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن الحسين بن إسحاق المؤتمن بن الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الإمام السبط الشهيد الحسين ...»
ويرى في عمود النسب لأبيه اسم صفي الدين الأردبيلي، ومن ذريته إسماعيل الصفوي الذي جلس على عرش فارس وأسس فيها الأسرة الصفوية، ومنها «علي سياه بوش» الذي رحل إلى بلاد الروم وتزوج سيدة من حلب ثم قفل إلى بلاده، وخلف بها أجداد الأسرة الكواكبية.
Неизвестная страница
ومن أعرق علماء حلب من أسرة الكواكبي الشيخ «محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي» الذي تولى منصب الإفتاء فيها، وكان مولده بها سنة ثماني عشرة وألف هجرية «1609م»، وتوفي بها سنة ست وتسعين وألف هجرية «1685م»، وله مؤلفات في علوم الفقه والأصول والكلام والمنطق، منها: شرح الفوائد السنية، ونظم الوقاية، ونظم المنار، وإرشاد الطالب، وشرح كتاب المواقف، وحاشية على تفسير البيضاوي، ورسالة في المنطق، وتعليقات على تفسير سورة الأنعام.
وأول من اشتهر من الأسرة باسم الكواكبي - فيما يقال - محمد أبو يحيى بن صدر الدين، قال صاحب كتاب «نهر الذهب» في كلامه عن جامع أبي يحيى الكواكبي:
يظهر أنه جامع قديم، وأنه اشتهر باسمه الحالي نسبة إلى محمد بن إبراهيم بن يحيى الكواكبي؛ لأنه وسعه وأقام فيه أذكاره، فلما مات دفن فيه، وبنى عليه «سيباي بن عبد الله الجركسي» قبة من ماله، وهو جامع فسيح له قبلة متوسطة تقام فيه الصلوات والجمعة، وله منارة فوق بابه، وفي غربيه قبة أبي يحيى المذكور، مكتوب في الجدار الكائن فوق رأس الضريح:
وليس عجيبا أن تيسر أمرنا
بحضرة هذا القطب حاوي المناقب
ولي تولاه الإله بلطفه
وولى فأولاه صنوف المواهب
وما مات حتى صار قطبا مقربا
ونال من الغفران أعلى المراتب
هدينا إلى هذا المقام بطيبه
Неизвестная страница
كما يهتدي الحادي بنور الكواكب
وفي صحن المسجد في جهته الغربية عدة قبور لبني الكواكبي، وفي شرقيه حوض يجري إليه الماء من قناة حلب، ولهذا المسجد وقف قديم هو الآن ثلاثة حوانيت في سويقة علي، وله مخصصات من وقفي حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي ووالده المذكور، ويوجد على يسرة الداخل للجامع حجرة لتعليم الأطفال، وفي جانبها صهريج سبيل يجري إليه الماء من قناة حلب، عمرته هبة الله بنت حسن أفندي المذكور، وهي أم حسن بك ابن مصطفى بك، وفي جانب المسجد من شرقيه مدرسة تعرف بمدرسة الكواكبي يصعد إليها بدريجات، وهي عامرة نيرة مشتملة على قبلة وحجرتين
1 ...»
ويقال إن السيد أبا يحيى عرف باسم الكواكبي؛ لأنه كان يعمل في الحدادة ويتقن صنع المسامير التي تسمى الكواكب لاستدارتها ولمعانها، فنسب إليها، ثم سلك مسلك المتصوفة فنبه فيها شأنه وتوافد عليه التلاميذ والمريدون ومنهم أمراء ورؤساء، كانوا يفدون إليه وهو في نسكه أو في ذكره، فلا يجسرون على التحدث إليه حتى يأذن لهم، لهيبته وورعه، وسميت طريقة آل الكواكبي بالطريقة الأردبيلية نسبة إلى أردبيل من أذربيجان، وهي البلدة التي ينتمي إليها صدر الدين وصفي الدين المتقدمان.
ومن أعلام الأسرة الذين ترجم لهم في كتاب «إعلام النبلاء» الشيخ «حسن أفندي ابن أحمد أفندي الكواكبي المتوفى سنة 1229 هجرية»، ترجمه العلامة عبد الرزاق البيطار الدمشقي في تاريخه «حلية البشر» فقال في وصفه: «هو كعبة الأدباء ونخبة العلماء، من اشتهر بالفضائل وشهد له السادة الأفاضل ... تولى منصب الإفتاء في مدينة حلب، وكان حسن الأخلاق كريم الطباع، وكان العلامة المرادي مفتى دمشق - لما كان في الحلب - يتردد عليه كثيرا، وامتدحه بعدة قصائد ... وترجمه الشيخ عبد الله العطائي في رسالته «الهمة القدسية» المدرجة بتمامها في ترجمته ... ومن آثاره كتاب سماه «النفائح واللوائح في غرر المحاسن والمدائح»، جمع فيه نظم والده وما مدح به من شعراء عصره وما مدح به أسلافه، وعقد لكل واحد من هؤلاء الشعراء ترجمة ...»
ومن هؤلاء الأعلام الشيخ أحمد الكواكبي الذي ولد سنة خمس وأربعين ومائتين وألف، وتوفي سنة ثلاثمائة وألف، وجاء في ترجمته أنه «تلقى العلوم النقلية والعقلية على أشياخ عصره في الشهباء ... وأخذ الطريقة الشاذلية عن الشيخ بكري البلباني، وكان شديد الصحبة للشيخ أبي بكر الهلالي يمضي معظم أوقات فراغه معه في الزاوية الهلالية، وأقرأ في المدرسة الكواكبية والمدرسة الشرقية وفي الجامع الأموي منذ وجهت إليه وجهة التدريس فيه سنة ثلاث وثمانين ومائتين، واشتهر بعلم الفرائض وتحرير الصكوك، واشتغل بأمانة الفتوى، وعين عضوا في مجلسي إدارة الولاية، وكان ربعة أسمر اللون نحيف الجسم أسود العينين، وخطه شيب في أواخر عمره، وكان رقيق الحاشية ظريف المحاضرة لا يمل منه جليسه، حسن الخلق جدا، وربما أوقفه ذو سؤال زمنا غير يسير وهو يستمع له ولا ينصرف حتى يكون السائل هو المنصرف، وكان وقورا مهيبا قنوعا متصلبا في دينه وقافا عند الحق.
وكان يعرف اللغة التركية؛ إذ كان يندر من يعرفها بحلب خصوصا من العلماء، وحدث مرة أن انحلت نيابة القضاء في حلب وتأخر قدوم النائب، فأراد الوالي إذ ذاك ألا تتراكم الأشغال في المحكمة الشرعية، فكلف رئيس الكتاب أن يتولى القضاء وكالة، فقال له: لا يجوز توكيل الوالي ولا ينفذ قضاء من يوكله. فقال له: أنا وكيل الخليفة فلي أن أوكل! فأبى عليه القبول، فتكدر منه وأخرجه من عنده، ثم إنه أراد تنفيذ مقصده فكلف المترجم إلى الوكالة، فأجابه إلى ذلك فسر جدا وكتب له في الحال منشورا بتوكيله إياه في القضاء، فذهب إلى المحكمة الشرعية، وصار الناس يتطلعون إلى صنيعه: كيف يوفق بين أمر الوالي والحكم الشرعي؟ فكان يسمع للخصمين ويضبط مقالهما، ثم يشير عليهما بالصلح ويريهما أحسن وجه للاتفاق ولا يزال يعظهما بالموعظة الحسنة حتى يتصالحا، فيكتب بينهما صكا، وقد حصل المطلوب من القضاء، وإذا أبى عليه خصمان عن المصالحة قال لهما: أتحكمانني بينكما؟ فيحكمانه، فيكتب صكا بتحكيمهما ثم يحكم بينهما، ويؤخر تسليم صك الحكم إلى حضور النائب، ثم لما حضر النائب أمضى كل ما تم من قبل المترجم وختم صكوكه.
وقد اكتسب شهرة عظيمة بهذا الصنيع، فكان من بعد ذلك وقفا على الإصلاح بين الناس، وربما حضر مجلسا للإصلاح بين خصمين، فوجد الذي دعاه غير محق، فكان لا يألو جهدا في نصحه وإرجاعه إلى طريق الحق، وإنما كان موفقا في ذلك؛ لأنه إنما كان يقصد وجه الله تعالى، وكان متوليا على جامع جده أبي يحيى وخطيبا وإماما فيه».
2
والشيخ أحمد الكواكبي هذا هو والد المترجم ومعلمه ومربيه ومورثه جملة صفاته وسجاياه، كما يرى من تفصيل سيرته في مواضعها.
Неизвестная страница
وقد نشأ المترجم في هذا الجيل من أجيال الأسرة وهي على عهدها بمنازل الشرف والعلم: أبوه أهل للقضاء في الخصومات بفضله وسمته، وأهل للتدريس في أكبر المعاهد بعلمه وصلاحه، وأحوه الأصغر «مسعود أفندي» يشترك في معاهد العلم عضوا بالمجمع العلمي في دمشق، ويشترك في معاهد الحكم عضوا بمحكمة التمييز، وفي مجالس السياسة عضوا بمجلس المبعوثين، ويقول عنه رئيس المجمع العلمي الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته بعد كلامه عن أخيه عبد الرحمن صاحب الترجمة: «وكان هذا يقول لي إن شقيقه مسعودا أعلم منه، وقد كتب لي الحظ الأوفى أن زاملته سنين في المجمع العلمي العربي، رأيته فيها ورصفائي مثال العلماء العاملين الذين ذكرت كتب الرجال تراجمهم العظيمة، وكانوا ممن اعتز بهم العلم وارتقى الفكر الإسلامي، حللت روح هذين الحبيبين الشقيقين والحبرين الكاملين فما سقطت فيهما على عيب من عيوب الآدميين جل الصانع! وسجلت أنهما تقدما جيلهما في كل معاني الفضل والنبل، وما أسفا إلى أن يعيشا كأكثر أبناء الفقهاء عيش التوكل والخنوع يأكلون ويشربون ويتناسلون ويجمعون من حطام الدنيا ما وصل إلى أيديهم، فالدم الطاهر ينم عن صاحبه كيفما تقلبت به الأحوال، ولا يحتاج إلى من يدل عليه ...»
ولسنا نحتاج إلى أكثر مما تقدم فيما رواه الرواة والمعاصرون عن أسرة الكواكبي للتعريف بأوائل نسبه ومنابت أخلاقه وشمائله، ففي صفحات الكتب وأقوال المحدثين أخبار متناثرة من قبيل ما أجملناه تعيده أحيانا في مختلف العبارات أو تزيد عليه ما ليس يزيد في مغزاه، ولكننا نجتزئ باليسير منها؛ لأنه أجزاء متناسقة يتمم بعضها بعضا، وينتظم منها تاريخ متصل الحلقات منذ عرف اسم الأسرة في موطنها إلى مولده وأيام حياته، وكلها - سواء منها الخبر المروي والخبر الذي تنبئنا عنه معالم المدينة وآثارها - ينتهي إلى نتيجة واحدة تكفي للتعريف بحاضره وماضيه الذي كان له الأثر الواضح في حياته وعمله، فمن هذه المعالم والأخبار نعلم أن «عبد الرحمن » قد وعى دنياه وهو يتلقى من ذكريات قومه قدوة النبل والمعرفة، وتمتد به الذكرى الغابرة إلى عهود الأسلاف الذين نهضوا بزعامة الدين وزعامة الدولة، وتحفزوا للعرش من صوامع العبادة ومساجد الدرس والهداية. وقد يتأنى المؤرخ حين يبحث عن الأسانيد القاطعة فيما يتحراه عامة المؤرخين ورواة الأخبار عن القديم، ولكنه لا حاجة به إلى الأناة فيما وعته ذاكرة الأحياء من أبناء الأسرة، وأثبتوا به إيمانهم بما كان لهم من سابقة، وما ينبغي لهم من حياة حاضرة، فلا خلاف على هذه الذكريات بين أبناء الأسرة وأبناء المدينة التي تأصل فيها الأبناء بعد الآباء والأجداد على مدى أجيالها المذكورة، ولا خلاف بين الرواة المعاصرين في عراقة الأسرة الكواكبية في مدينة حلب وإقليمها من حولها، وإنما يختلفون فيمن تسمى باسمها لأول مرة من أجداد عبد الرحمن لأبيه أو لأمه، ويقال إن أبا يحيى - أحد أجداده - كان يسمى «البيري» نسبة إلى «البيرة» على القرب من حلب، ويقول صديقه ومؤرخه الأستاذ كامل الغزي في مجلة الحديث الحلبية: «إنه عرف بالكواكبي لاتصال أحد أسلافه بآل الكواكبي من جهة النساء المعروفات بعراقة النسب.»
ولا يذكر - على أية حال - ذو نسب كواكبي بالمدينة غير آل عبد الرحمن في حياته وحياة أبيه وجده.
وقد حدث في حياة عبد الرحمن حادث ذو بال في تاريخ الأسرة وتاريخه؛ بل تاريخ دعوته وتفكيره، فانتقلت نقابة الأشراف من بيت الكواكبي إلى بيت «الصياد» شيخ الطريقة الرفاعية وشيخ مشايخ الطرق بعد ذلك في أنحاء الدولة التركية، ولكنها لم تنقل للشك في نسب الأسرة الكواكبية أو لثبوت نسب الأسرة الأخرى أسرة محمد بن حسن وادي المشهور بأبي الهدى الصيادي ... وإنما انتقلت لرضى الولاة عن زعيم هذه الأسرة ونفورهم من الأسرة الكواكبية، وهذا هو المثل القريب الذي لمس فيه عبد الرحمن عيوب الحكم في الدولة، وأدرك به مواطن الحاجة إلى الإصلاح، قبل أن يدركه بالبحث والاطلاع.
وأحسب أننا نحتاج قبل اختتام هذا الفصل إلى كلمة موجزة عن الأسرة الصفوية التي يجمعها عمود النسب بالأسرة الكواكبية، كما تجمعها الطريقة «الأردبيلية» منذ أيام مؤسسها صفي الدين المشهور، فإن الاتصال بين النسبين قد يفسر لنا الغابر بالحاضر، ويفسر لنا ميراث الشعور منذ القدم بين الأسرة والدولة العثمانية، أو دولة السلطان سليم على التخصيص.
فمن الثابت أن الشاه إسماعيل الصفوي قد نشأ - كما يقول مؤرخو الإفرنج - من «أسرة دراويش»، ينتسبون إلى بلدة أردبيل بأذربيجان ويرتفعون بعمود النسب إلى الإمام علي والسيدة الزهراء.
ومن الثابت أن الأسرة الصفوية من عهد مؤسسها كانت على دراية بتنظيم الجماعات السرية، وعلى أهبة لتجميع الجموع بالمحالفة والعصبية.
ومن الثابت أن النساك من زعماء الطريقة الأردبيلية كانوا يزورون دمشق وبيت المقدس، ويترددون على المدن في الطريق بين شمال فارس وبلاد الروم.
ويقول المؤرخ اللبناني المسيحي «شاهين مكاريوس» في كتابه الذي وضعه عن تاريخ إيران بإذن الشاه ناصر الدين: «إنها عائلة علماء أعلام وأئمة كرام وأصحاب تقوى يوقرهم الأنام.»
ثم يروي قصة قيام الدولة فيهم فيقول بعد الإشارة إلى الشيخ صفي الدين: «وكان لهذا الشيخ الفاضل أعوان يصدعون بأمره، وهو لا يأمر بغير الطيب والإحسان، وخلفه ابنه صدر الدين، وعقبه من الأولياء مشاهير مثل خواجه علي وجنيد وحيدر، ممن اشتهروا بالفضل والعلم والتقوى، وكان صدر الدين في أيام تيمور، وقد أخذ له مقرا في مدينة أردبيل من أعمال أذربيجان مثل أبيه، فزاره يوما هذا البطل العظيم، وسأله أن مر بما تريد أقضه في الحال. قال: أريد منك أن تطلق سبيل الأسرى الذين أتيت بهم من بلاد الأتراك. ففعل تيمور بإشارته، وحفظ الأتراك هذا الجميل لصدر الدين وعائلته، وكانوا بعدئذ هم السبب في توليتها الملك كما سيجيء. وليس في التاريخ ذكر أمر يدل على الإقرار بالجميل بعد مرور الأجيال مثل هذا الأمر، وأشهر ما يذكر عن خواجه على أنه حج إلى القدس الشريف ومات فيه وخلفه حفيده جنيد، فاجتمع لديه خلق كثير حتى خاف الأتراك شره، وحارب أحد رؤسائهم فاضطره إلى الفرار إلى ديار بكر حيث قابله حاكمها الأمير حسن بالإكرام وزوجه أخته، وقصد جنيد بعد ذلك بلاد شيروان فحاربه حاكمها وقتله، فخلفه السلطان حيدر، وكان أمير «أوزون» حسن حليفه فتقوى بنصرته على الأعداء، وصار بالتدريج حاكما على كل بلاد إيران في مدة السلطان أبي سعيد الذي مر ذكره، ومات فدفن في أردبيل، فخلفه ابنه السلطان علي، ولكن القلاقل كثرت في أيامه وظلت عائلة صفي الدين في خطر دائم، يوما تصعد إلى الأوج ويوما تنحط إلى الحضيض، حتى قام السلطان إسماعيل ابن السلطان علي، وملك البلاد، وهو في اعتبار المؤرخين أول ملوك الدولة الصفوية، ولا يعرف عن شاه إسماعيل في أيام صغره غير القليل، إلا أنه استلم قيادة الأعوان في الرابعة عشرة من عمره فحارب عدو عائلته حاكم شيروان وقتله، ثم هجم عليه الأتراك والتركمان من ناحية الأناضول ففرق شملهم وانتصر على كل أعدائه، فنودي به سلطانا على مملكة إيران وما يتبعها وهو في الخامسة عشرة من عمره.
Неизвестная страница
وكان إسماعيل صوفيا مثل أفراد عائلته وليس له أعداء وأعوانه كثار، فرأى بعد الإمعان أن يدخل مذهب الشيعة الاثني عشر الجعفرية إلى إيران ويجعلها مذهب السلطنة، ففعل ذلك وفاز بمراده، ولم يلق معارضة تذكر؛ لأن الإيرانيين عدوا هذا الانفصال استقلالا لهم، وفضلوا مذهب القائلين بتكريم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، ومن ذلك اليوم صارت بلاد إيران مقر الشيعة بين المسلمين، وعصت خراسان وبلخ وغيرها من الولايات أمر السلطان إسماعيل في بدء حكمه على عادتها، فحاربها كلها وانتصر عليها، وامتد نفوذ هذا السلطان امتدادا عظيما حتى رزق عدوا كبيرا لم يقدر عليه، هو السلطان سليم العثماني الشهير، قصد بلاد إيران بخيله ورجله البالغ عددها مائة وخمسين ألفا ومائتي مدفع، وذلك بغتة دون مخابرات دولية لدى الحكومات، وقام إسماعيل لمحاربته بكل ما لديه من القوة وهو يومئذ بهمدان يطلب الصيد والقنص، ودافع عن بلاده في جلدران بخمسة عشر ألف نفس بأذربيجان، فتقهقر أمامه وكسر شر كسرة مع أنه أظهر في الحرب بسالة غريبة، وكان الأتراك يحاربون بالمدافع والإيرانيون بالسلاح القديم، غير أن انتصار الأتراك لم يؤثر في إيران؛ لأنهم اضطروا إلى الرجوع في الشتاء لشدة البرد وقلة الزاد، ولكن إسماعيل ظل حزينا من بعد تلك الكسرة إلى آخر أيامه، ويروى أنه لم يضحك من بعد ذلك اليوم، ولم يترك لبس السواد أيضا، ولما مات السلطان سليم تقدم إسماعيل على بلاد الأتراك للأخذ بالثأر، فأخضع بلاد الجركس وهي يومئذ تابعة للأتراك، وعاد عنها فعرج على أردبيل ليزور قبور أجداده، فقضى نحبه هناك ودفن فيها مأسوفا عليه ...» •••
ترى هل نرى في تاريخ هذه الشعبة من أردبيل ما يأبى أن تلحق به تتمة تلائمه من تاريخ الشعبة الكواكبية؟ إن تاريخ الأسلاف ليسبق في الزمن كالمقدمة التي تنتظر البقية من أعمال الخلفاء والأبناء، وما أحرى عبد الرحمن أن يكون البقية المنظورة لمقدمة صدر الدين! وما أحرى الأسرتين أن يتسلل فيهما نبع واحد من النجدة والورع والهمة والصلابة والسماحة، تشابه فيمن عرفناه منهما حتى الآن على تنوع المواضع والميادين!
شيء واحد يستوقف المؤرخ من اختلاف الشعبة الصفوية والشعبة الكواكبية، ولكنه اختلاف متوقع ينفي كل ما فيه من الغرابة بانتظار وقوعه على الوجه الذي صار إليه.
فالشعبة الصفوية أخذت بمذهب الشيعة الإمامية حين قام منها الأئمة على عرش إيران، والشعبة الكواكبية تدين بمذهب أبي حنيفة من أئمة السنة؛ لأنه المذهب الذي غلب على المدينة حيث درجوا وتعلموا وأنجبوا الأبناء المتعلمين والأساتذة المعلمين، وربما كان من أتباع صدر الدين أحناف كثيرون كما يعلم من كثرة مريديه من الترك المنتقلين إلى إيران في أسر السلطان تيمور.
وقد كان اتباع الكواكبي للمذهب الحنفي لا يمنعه أن يدعو إلى وحدة المذاهب وإقامة الإمامة على غير قواعد الخلافة في الدولة العثمانية، فربما كان هذا التصرف بين الشعبتين على المنهج المنتظر من كليهما قرابة باطنية تمحو ما يتراءى للنظر من ظواهر الاختلاف.
الفصل الرابع
النشأة
الطفل أبو الرجل
صدق من قالها بما عناه من لفظها ومعناها، فإن الرجل الكبير يتولد من الطفل الصغير، فهو وليده وسليله على هذا التعبير.
وقد كان عبد الرحمن الصغير أبا مبكرا للرحالة المجاهد المفكر الحكيم صاحب «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» ورائد النهضة العربية في طليعة الرواد.
Неизвестная страница