فابتسم الملك في غموض، ولبث القلق واضحا على وجهه الجليل، فقال وزيره خوميني: مولاي صاحب الجلالة الربانية! لماذا تفرقون بين ذاتكم العالية وبين شعب مصر، وأنتم منه كالرأس من القلب، والروح من الجسد؟ إنكم يا مولاي عنوان مجده، وآي فخاره، وحصن عزته، ووحي قوته، ولئن وهبكم حياته فإنما يهبها لمجده وعزته وسعادته، وما في هذه المحبة ذل أو عبودية، إن هي إلا وفاء جميل وحب عتيد ووطنية سامية.
فابتسم الملك ارتياحا، وعاد بخطى واسعة إلى الأريكة الذهبية، وجلس فجلس القوم، ولم يكن الأمير رعخعوف ولي العهد بمرتاح إلى وساوس والده فقال له: لماذا تكدرون صفوكم يا مولاي بأمثال هذه الوساوس؟ لقد وليت الحكم بمشيئة الآلهة لا بإرادة إنسان، ولك أن تحكم الناس كيف تشاء لا تسأل عما تفعل وهم يسألون!
فقال خوفو: أيها الأمير، إن أباك إذا تفاخرت الملوك يقول: «أنا فرعون مصر.»
ثم تنهد بصوت مسموع، وقال وكأنه يحدث نفسه: إن كلام رعخعوف حري بأن يوجه إلى حاكم ضعيف، لا إلى خوفو الجبار ... خوفو فرعون مصر ... وما مصر إلا عمل عظيم لا تقام لبناته إلا على تضحيات الأفراد، وما قيمة حياة الفرد؟ إنها لا تساوي دمعة جافة لمن ينظر إلى المستقبل البعيد والعمل المجيد ... لهذا أقسو دون تردد، وأضرب بيد من حديد، وأسوق مئات الألوف إلى الشدائد لا لبلادة طبع أو تحكم أثرة، وكأن عيني تنفذان خلل سجف الأفق فتطلعان على مجد هذا الوطن المنتظر. لقد اتهمتني الملكة مرة بالقسوة والظلم، كلا، ما خوفو إلا حكيم بعيد النظر، يرتدي جلد نمر مفترس، ويخفق في صدره قلب ملاك كريم.
وساد صمت طويل. وكان الصحابة يمنون أنفسهم بسمر طريف ينسيهم أثقال تبعاتهم الجسام، وكانوا جميعا يرجون أن يقترح الملك عليهم رياضة جميلة أو يدعوهم إلى مجلس شراب وغناء، بعد أن شبعوا من أحاديث الأعمال والمهام، ولكن الملك كان في تلك الأيام يشكو من ملل أوقات الفراغ على قصرها وندرتها، فلما علم أنه قد آن له أن يستريح، وأن يلهو ران على قلبه السأم، ونظر إلى صحبه في حيرة، وقد قال له خوميني: هل أملأ لمولاي كأسا من الشراب؟
فهز فرعون رأسه وقال: شربت اليوم وشربت بالأمس ...
فقال أربو: هل ندعو العازفات يا مولاي؟
فقال بملل: إني أستمع إلى موسيقاهن صباح مساء.
فقال ميرابو: ما رأي مولاي في الخروج إلى الصيد؟
فقال الملك بنفس اللهجة: شبعت من صيد البر والبحر. - إذن فهل من سير بين الأشجار والأزهار؟
Неизвестная страница