هنا بادر الفنان ميرابو يقول كأنه يكمل حديث الملك: والألوهية يا مولاي؟
فهز فرعون رأسه استهانة وسأله: وما الألوهية يا ميرابو؟ إن هي إلا قوة.
فقال المعمار بثقة وطمأنينة: ورحمة ومحبة يا مولاي.
فقال الملك وهو يشير بسبابته إلى الفنان: هكذا أنتم أيها الفنانون! تروضون الصخور العاتيات، وقلوبكم أندى من نسيم الصباح. وما أحب أن أجادلك، ولكني ألقي عليك سؤالا ستجد في الجواب عليه فصل الخطاب: إنك يا ميرابو تخالط - منذ عشرة أعوام - جيوش هؤلاء العمال الأشداء، وإنك لذلك حقيق بأن تطلع على خبايا ضلوعهم، وما تختلج به نفوسهم في السر والنجوى ... فما الذي تظن أنه يلزمهم طاعتي ويصبرهم على أهوال العمل؟ قل الحق صراحة يا ميرابو ...
فصمت المعمار ساعة يعمل فكره، ويدعو الذكريات. وقد اتجهت إليه الأنظار في اهتمام شديد، ثم قال بتؤدة بلهجته الطبيعية المفعمة حماسة ويقينا: العمال يا مولاي طائفتان؛ طائفة الأسرى والمستوطنين، وهؤلاء لا يدرون ماذا يفعلون، ويروحون ويغدون بلا شعور سام كما يدور الثور حول الساقية، ولولا قسوة العصا ويقظة الجند ما وقفنا لهم على أثر.
أما طائفة المصريين، وغالبيتهم من مصر العليا، فهم أناس ذوو عزة وكبرياء وجلد وإيمان، تحملهم للعذاب عجيب، وصبرهم على الشدائد صارم، وهم يعلمون ماذا يفعلون، وتؤمن قلوبهم بأن العمل الشاق الذي يهبونه حياتهم واجب ديني جليل وزلفى للرب المعبود، وطاعة لعنوان مجدهم الجالس على العرش؛ فمنحتهم عبادة، وعذابهم لذة، وتضحياتهم الجبارة فرض لإرادة الإنسان السامي على الزمان الخالد. تراهم يا مولاي في وهج الظهيرة وتحت نيران الشمس المحرقة يضربون الصخر بسواعد كالصواعق وعزائم كالأقدار، وهم ينشدون الأغاني ويترنمون بالأشعار.
فانبسطت أسارير السامعين وسرت في دمائهم نشوة الفرح والفخار، وتبدى الرضا على قسمات فرعون البارزة القوية، وقام عن أريكته - وقد بعث قيامه الجالسين قياما - وسار في الشرفة الواسعة على مهل واتزان حتى بلغ حافتها الجنوبية، وألقى النظر بعيدا إلى تلك الهضبة الخالدة التي ترسم على رقعتها المقدسة خطوط العمال الطويلة، وتأمل منظرها الجليل ومشهدهم الرائع. أي مجد وأي جلال! أي عذاب وأي جهاد في سبيله هو! هل ينبغي أن تشقى ملايين النفوس الشريفة من أجل مجده! هل ينبغي أن يولي ذاك الشعب النبيل وجهه قبلة واحدة هي سعادته هو؟
كان ذلك الوسواس هو القلق الوحيد الذي يضطرب أحيانا في ذلك الصدر المليء بالقوة والإيمان، مثله كمثل قطعة من السحاب التائه في سماء زرقاء صافية الزرقة، وكان يعذبه - إذا اضطرب - فيضيق به صدره وينغص عليه صفوه وسعادته، وقد اشتد به العذاب فولى الهضبة ظهره، وطالع صحابته بوجه غاضب دهشوا له، وطرح عليهم هذا السؤال: من الذي ينبغي أن تبذل حياته لصاحبه؟ الشعب لفرعون أم فرعون للشعب؟!
فوجموا جميعا واستولى عليهم الارتباك، وكان القائد أربو أربطهم جأشا، فقال بصوته القوي النبرات: إننا جميعا - شعبا وقادة وكهنة - فداء لفرعون!
وقال الأمير حرسادف أحد أبناء الملك بحماس شديد: والأمراء أيضا.
Неизвестная страница