ولذلك قال أمير المؤمنين - عليه السلام -: "منزلة الصبر من الإيمان منزلة الرأي من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له"، وأن يكون منصفا غير مكابر، لأنه إنما يطلب الإنصاف من خصمه، ويقصده بقوله وحجته، فإذا طلب الإنصاف بغير الإنصاف فقد طلب الشيء بضده، وسلك فيه غير مسلكه، وأن يجتهد في تعلم اللغة، ويتمهر في العلم بأقسام العبادة فيها، فإنه إنما يتهيأ له بلوغ ما يقتضي الجدل بلوغه من: قسمة الأشياء إلى ما ينقسم إليه، وإعطاء كل قسم منها ما يجب له، والاحتراس من إشراك لأسماء واختلاط المعاني باللغة والمعرفة بها، وأن يتحرر من مغالطات المخالفين. ومشبهات المموهين، وأن يحلم عما يسمع من الأذى والنبز، ولا يشغب إذا شاغبه خصمه، ولا يرد عليه إذا أربى في كلامه، بل يستعمل الهدوء والوقار، ويقصد مع ذلك لوضع الحجة في موضعها، فإن ذلك أغلظ على خصمه من السب، وربما أراد الخصم باستعمال الشغب قطع خصمه، وأن يشغل خاطره عن إقامة حجته، فإذا أعرض المجادل عن ذلك ولم يتحرك له طبعه ولم يشغل ذهنه، وجمع مع قهر خصمه والاستظهار بالحجة عليه ظهور حلمه للناس، ومعرفة الحضور بوقاره ووفوره، ونقص خصمه وخفته، وأن يتجنب الجدل في المواضع التي يكثر فهيا التعصب لخصمه، فإنه لا يعدم فيها أجد شيئين: إما الغيظ فتقصر قريحته، [وإما] الحصر فيعيا بحجته، وألا يستصغر خصمه، ولا يتهاون به، وإن كان الخصم صغير المحل في الجدال، فقد يجوز أن يقع لمن لا يؤبه له الخاطر الذي [لا] يقع لمن هو فوقه في الصناعة، ولقد أوصى # القدماء بالاحتراس من العدو، وألا يستصغر صغير منه، والخصم عدو لأنه يجاهدك بلسانه، وهو أقطع سيفيه كما قال أردشير، وقد قال حسان [بن ثابت].
"لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي)
وأن يصرف همته إلى حفظ النكت التي تمر في كلام خصمه، مما بنى منها مقدماته، وينتج فيها نتائجه، ويصحح ذلك في نفسه، ولا يشغل قلبه بتحفظ جميع كلام خصمه، فإنه متى اشتغل بذلك أضاع ما هو أحوج إليه منه، وألا يكلم خصمه وهو مقبل على غيره، أو مستشهد لمن حضر على قوله، فإن ذلك سوء عشرة، وقلة علم بأدب الجدل، وظهور حاجة إلى معونة من حضر له، وألا يجيب قبل فراغ السائل من سؤاله، ولا يبادره بالجواب قبل تدبره، واستعمال الروية فيه، وأن يعلم بعد هذا أنه لا يعد في المجادلين الحذاق حتى يكون بحسن بديهته، وجودة عارضته، وحلاوة منطقه قادرا على تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، متى شرع في ذلك، وأقام كل واحد منهما في [النفوس] مقام صاحبه، فقد وصف الشاعر بعض الجدليين بذلك فقال:
(يسرك مظلوما وينجيك ظالما ... ويحمل إن حملته كل مغرم)
وقال آخر:
Страница 193