ولقد سمعت عن عظيم من العظماء كان ديدنه في أمر الوظائف ألا يطلبها وألا يرفضها، وأضيف إليه كذلك ألا يستقيل منها، وقد قلت لأصدقائي: إنني ترقيت إلى تلك الوظيفة على درجات من الوظائف التي هي دونها، وكانت مواردها قبل ولايتي لا تأتي بمرتبها، فأصبح المرتب بعد ولايتي لا يعطى إلا إذا أتت به مواردها، وكانت في السنوات الأربع الأولى لا تقوم بتكاليفها حتى بلغ ديني ودين زملائي عليها تسعمائة وخمسين جنيها، فاجتهدت اجتهادي حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من الوفرة والفائدة، واعتقدت من ثم أنني صاحب نوع من الحق فيها، وقد قمت حتى الآن بالأمانة والصدق على أعمالها مما أرضى عني الرؤساء كل الرضا، وهو غاية ما كان يطلب مني في هذه الوظيفة. أما الكتب التي أنفذتها إلى فلادلفيا فقد كتبتها فعلا قياما بواجب آخر، وهو واجبي نحو وطني، ولا شأن له بعملي في إدارة البريد، وإن مسلكي في هذه المسألة لشبيه بمسلكي في مسألة سابقة لها حين كان الرؤساء يهمون باحتضاني، واعتناقي لمساعدتي إياهم في إلغاء قانون خاص بالإيراد، ولا يزال شعوري اليوم كشعوري بالأمس في أمر هذه القوانين التي لا يجوز أن تصدر هنا لتطبيقها في أمريكا، وأنها إذا صدرت وجب السعي إلى إلغائها على الأثر، ولست أعتقد أنني مطالب بتبديل شعوري كلما خطر لصاحب الجلالة هنا أن يغير وزراءه ووكلاءه، وقد كانت هذه عبارتي التي فهت بها لهذه المناسبة، ثم سمعت أنهم - وإن حسبوني حقيقا باللوم، وفهموا أن الموظف مطالب بمجاراة الوزير على رضا منه أو على غير رضا - وقد عادوا فنظروا إلى مسلكي الطيب وخلقي الشخصي كما تفضلوا فوصفوه، وقرروا من ثم ألا تنتزع الوظيفة مني.
وجائز أنهم ينكصون عن رأيهم هذا ويعزلونني، ولكنني على ثقة أن شيئا من هذا لن يبدل من خطتي السياسية، وخطتي التي اطمأننت إليها دائما هي ألا أحيد عن خطة في الشئون العامة رعاية لشأن من الشئون الخاصة، بل أمضي قدما في عمل الصواب الذي أعتقده، وأدع المصير بين يدي العناية الإلهية. وقد كان مما يسر لي أن أستقيم على النهج في صباي أنني كنت صاحب صناعة، وكنت أعلم أنني أقنع بالقليل في معيشتي، ولم يكن من همي يومئذ أن أجمع ثروة كبيرة، وأن أذهب مع الأطماع، قانعا بما أكسبه من الكفاية من موارد عملي. والآن أخال أن الاحتفاظ بحريتي ونزاهتي أيسر علي بعد أن بلغت النهاية من مراحل عمري، وقلت النفقة التي بقيت للبقية منها، وأن ما أملكه الآن ببركة الله وحسن القصد فيه ليكفيني، إلا إذا وقع من الكوارث العظمى ما ليس في حسابي، فلا حاجة بي إلى الزيادة عليه من موارد وظيفة أو إدارة.
أبعث إليك في هذه الفرصة الكتابين اللذين كتبت عنهما، وثمن كل منهما ثلاثة شلنات، وقد كنت في زيارتي السابقة للندن قبل خمس وأربعين سنة أعرف إنسانة تفكر تفكير مؤلفك اسمها «اليف» أرملة أحد الطباعين، وماتت على أثر سفري من إنجلترا، فكان من وصيتها لولدها أن يلقي علانية في قاعة صولتر خطابا يؤكد فيه أن هذه الدنيا هي الجحيم الحق مقر العذاب والعقاب للأرواح التي أذنبت في حياة أفضل من الحياة، فنفيت إلى الأرض لتجزى على ذنوبها في أسلاخ الحيوان على اختلاف أنواعه، وانقضى زمن طويل منذ اطلعت على الخطاب المطبوع الذي كان يستشهد بالكثير من آيات الكتاب المقدس، ومرماه أننا سنتذكر بعد الموت ما كنا عليه قبل الولادة، وإن كنا ننساه أيام المقام في هذه الدنيا، وأننا نذكر كذلك ما لقيناه من العقاب لنعتبر به ويعتبر به سوانا ممن لم يذنبوا مثلنا، فلا يقعوا في الخطيئة اعتبارا بما أصابنا.
والواقع أننا نرى هنا أن كل حيوان من الحيوانات الدنيا له عدوه الذي ركبت فيه الرغبات والغرائز والأسلحة التي تمكنه من تخويفه وجرحه والقضاء عليه. أما الإنسان - وهو أرفعها جميعا - فبعضه لبعض شيطان، وتلك حال تستدعي فرضا كفرض السيد اليف مع الإيمان بكرم الله وعدله في قضائه للتوفيق بين هذا الإيمان وكرامة العزة الإلهية. إلا أن عقولنا لا تذهب بنا بعيدا حين نسومها أن تبحث عما كان قبل وجودنا، أو ما سيكون بعد هذا الوجود لقلة التواريخ والوقائع التي بين أيدينا، وإنما يعطينا الوحي معرفتنا الضرورية بهذا، ويقصد غاية القصد على الخصوص فيما أعطانا من المعرفة عما كان قبل وجودنا.
أرجو أن تتابعي الكتابة إلى أصدقائك بفلادلفيا، ومحبتي لأنجالك، وعلى العهد، أخوك المحب الودود.
وكتب إليها ينفي إشاعة عن تعيينه في وظيفة إنجليزية أثناء قيامه بالوكالة عن بعض الولايات الأمريكية:
لندن في 28 من يولية سنة 1774
إن الإشاعة التي أشرت إليها، وقيل فيها أنني اقترحت أن أتخلى عن توكيلاتي وأنقطع عن وطني إنما هي أكذوبة خبيثة كما قلت في خطابك، وليست بالإشاعة الكاذبة وحسب، بل هي سخيفة مضحكة؛ إذ هي تفترض على الأقل أنني لا أعرف من الحساب ما أفرق به بين ثلثمائة وألف، وإنهم ليعاودون الإشاعة هنا حينا بعد حين زاعمين أنني ألتمس الوسائل للعودة إلى وظائف الحكومة، ولعلهم يتمنون ذلك وينتظرونه. فلينتظروا إذن إلى يوم الدين.
إن الله لأعلم بسريرتي، وإنني لآسف أن أتقبل أحسن الوظائف التي ينعم بها الملك هنا ما دامت تلك الأفاعيل الجائرة تسلط على وطني. وثقي أنني لن أصنع شيئا يمسني في نظرك، أو ينقض المسلك الأمين الذي سلكته حتى الآن في الأعمال العامة، وقد احتفظت بوظيفتي السابقة حتى عزلت منها ولم أعتزلها؛ لأنني لم أكن قد تلقيتها مكافأة من الحكومة، بل ارتقيت إليها بحق الخدمة فيما دونها والأمانة في تلك الخدمة، فجاز لي أن أعتبر لي حقا فيها أو حقا عليها، ولم أشأ أن أيسر لهم الأمر بالاستقالة لكي يبوء منهم من أراد أن يبوء بمسبة حرماني منها، وقد شرفوني بإخراجي من تلك الوظيفة، فليكن حذري الآن ألا يحملوني المسبة بإعادتي إليها.
وكل هذا أكتبه إليك أنت. أما الدنيا، فربما خطر لها أن هذه التصريحات والتوكيدات أمر لا يقبل التصديق ومحض ادعاء يدعيه المرء لتفخيم شأن نفسه. فلا تطلعي أيتها الأخت العزيزة أحدا على هذا، فإنما أكتبه إليك لمرضاتك وإراحة ضميرك مما عسى أن يساوره من القلق لسماع تلك الإشاعات.
Неизвестная страница