وقبضت بيديها على منكبيهما وجذبتهما إلى وسط الحجرة، وصاحت في وجه حسين قائلة: ألا تخجل من نفسك وأنت في سن الرجال.
ودفعته في صدره بقبضة يدها مرتين، ثم لطمته، وانقضت على حسنين الذي تراجع وهو يصيح: هو البادئ بالضرب، وهو الذي حطم الزجاج.
ولكنها هوت بكفها على فمه، ثم كيلت له الضربات على رأسه ووجهه؛ حتى حالت بينهما نفيسة، وصاحت المرأة: حذار أن أسمع لأحدكما صوتا، أما النافذة فستبقى مكسورة حتى تصلحاها بنفسكما.
وغادرت الحجرة منكفئة الوجه تملؤها تعاسة لا حد لها. ولبثت نفيسة بينهما برهة محزونة ثم تمتمت: زمن العراك انتهى. أنتما رجلان الآن!
ثم خاطبت حسين مبتسمة: ضقت بالهواء لحظة فماذا أنت فاعل الآن وقد فتحتها إلى الأبد؟! ألصقا جريدة مكان الزجاج وإلا فعليه العوض فيكما.
ولما لم تجد لقولها الأثر الذي انتظرت غادرت الحجرة. وعاد حسين إلى كرسيه صامتا على حين ارتمى حسنين على الفراش منفعلا. كثيرا ما ينتهي الشجار بينهما بتدخل الأم على هذا النحو. ولم تكن حياتهما تخلو من ملاحاة وشجار على صداقتهما الوطيدة، وصحبتهما التي لا غنى لأحدهما عنها. وكانت الغيرة كثيرا ما تعكر عليهما صفوهما، ولكنهما ظلا رغم هذا صديقين يتبادلان الأخوة والحب ولا يستغني أحدهما عن صاحبه. وكان حسين أعقل الأخوين وحسنين أقواهما، فكان الأول يقوم بمهمة الإرشاد والتوجيه فيما يعرض لهما من مشكلات يتعلق أغلبها باللعب والمسائل الاقتصادية الصغيرة، وكان الآخر يحمل عبء الدفاع الأكبر فيما يشتجر بينهما وبين الآخرين من عراك، خصوصا وأنهما كانا يتفاديان من الاستعانة بحسن إذا اشتد الخصم عليهما أن يتحول النزاع من عراك بين تلاميذ متخاصمين إلى معركة حقيقية دامية وخيمة العواقب، بيد أنه أصبح من النادر جدا أن يتشاجرا في الأعوام الأخيرة، وندر بالتالي أن تؤدبهما الأم بالضرب، وقد سبقت المعركة الأخيرة بفترة سلام طويلة كادت تقارب العام. ومهما يكن من أمر فلم يكن أثر الخصام ليحول بينهما أكثر من يوم، ثم يبدأ المعتدي بمخاطبة أخيه في شيء قليل من الارتباك، ولا يلبثان أن يتناسيا العراك كأنه لم يكن. شخص آخر كان يعاني من شجارهما أكثر مما يعانيان؛ هي الأم، فكان يترك في نفسها ألما عميقا ونكدا متغلغلا. ولم تجد من وسيلة لتأديبهما خيرا من الضرب؛ لعله يصلح ما أفسد الأب بتدليله لهما. ولم يكن أبغض لنفسها من أن يشذ أحد أبنائها عن حدوده، أو أن يبدر منه ما يعد افتئاتا على رابطة الأسرة المقدسة. وكان لها من حسن عبرة بذل الحياة أهون عليها من أن تتكرر. وحسن نفسه لم ينج من لكماتها ولكن بعد فوات الأوان وضياع الفرصة. وكانت لا تفتأ تلوم نفسها وأباه على تلفه، ويعذبها أشد العذاب أنه كان ضحية للتهاون والفقر، ومر شطر من الليل والشقيقان صامتان جامدان، واشتد السكون بعد أن آوت الأم ونفيسة إلى حجرتهما. ثم بدأ حسين يطالع في الكتاب محاولا أن يركز انتباهه المشتت، وراح حسنين يراقبه اختلاسا وهو يتساءل ترى ماذا يجد نحوه؟ وكان يحظى بذكريات جميلة خليقة بأن تعزيه عما أصابه، وبأن تثيبه إلى طمأنينته. وسرعان ما رفت على شفتيه ابتسامة. «كل شيء حسن، لاذت بالصمت، ومعناه أنها تحبني، حقا؟! لشد ما يشوقني أن أسمعها قولا تتحرك به الشفتان الشهيتان. رويدك! كل آت قريب، الصمت بداية، أما النهاية ...» ولاحت منه التفاتة نحو أخيه فعاوده الابتسام؛ «ما كان ضرني لو أغلقت النافذة؟! يبدو أنه لا يستطيع متابعة القراءة. لو وهب مثل حظي السعيد لما أعياه النسيان!» وداخله نحوه شيء من العطف.
23
عادت نفيسة إلى عطفة نصر الله عند الغروب، كعادتها في هذه الأيام الأخيرة. وكان يبدو عليها أنها أخذت تعير نفسها اهتماما وعناية، وهو ما أهملته طويلا؛ حدادا على وفاة والدها، فكحلت عينيها وصبغت خديها وشفتيها بحمرة خفيفة؛ شيء خير من لا شيء، بل إن دأبه على التودد إليها ومغازلتها خلق بها بعض الثقة بنفسها، والطمأنينة والأمل. ولم تعد تذكر أنه ابن بقال وأنها ابنة موظف؛ فاهتمامه بها أنزله من نفسها منزلة أثيرة رفعته فوق مقام أفضل الناس في نظرها، وانساقت إلى تشجيعه بدافع من عواطفها المشبوبة المكبوتة، ويأسها الخانق، والرغبة في الحياة التي لا تموت إلا بالموت. وبات مع الأيام صورة مألوفة، بل محبوبة، أنبتت لها في جدب الحياة زهرة مترعة بالأمل، فلم تعد تستقبل يومها بعين خابية لا تنتظر جديدا. وها هي تنقل خطاها في عطفة نصر الله بعد نهار حافل بالعمل، فيهزها سرور حار دافق يسري من القلب، وينتشر مع دمها في الأعصاب والأعضاء، قال لها مرة: «تريدين حلاوة؟ ما الحلاوة إلا أنت!» وغزا قوله نفسها فابتسمت في بهجة ومرح، وقد حدثتها نفسها أن تقول له «لا تكذب، لست من الحلاوة في شيء!» ولكنها أمسكت في حيرة وشك، وذكرت نفسها بقول القائل «لكل فولة كيال» من يدري؛ فلعلها ليست بالقبح الذي تظن! وجعلت تطوي الطريق وعيناها على الدكان حتى وقفت أمامه وجها لوجه. ولاح السرور في وجه سلمان فقال: أهلا وسهلا، كنت أتساءل متى تأتين؟
ورمت بنظرة إلى مقعد الأب فوجدته خاليا، ثم لمحته يصلي وراء العمود القائم وسط الدكان محملا بالعلب والبطرمانات فداخلتها طمأنينة وقالت في دلال: ولماذا تتساءل؟
فضيق عينيه الضيقتين وقال مبتسما: حزري! اسألي قلبي.
Неизвестная страница