وعلا صوتها ورن في بئر السلم فنظرت فيما حولها بحذر، وكتمت بأصابعها ضحكة كادت تفلت من شفتيها!
21
غادر حسنين شقة فريد أفندي محمد، وأغلق الباب وراءه. كان من الكآبة في غاية، واتجه نحو السلم طاويا صدره على اليأس والقهر، ولكنه توقف ويده على الدرابزين، ودفع رأسه متتبعا حفيف ثوب. فرأى طرف فستان أو معطف، وقد عبر صاحبه بسطة السلم الأخيرة المفضية إلى سطح العمارة. من؟! من عسى أن يرتدي هذا اللون الأحمر من سكان العمارة الذين يعرفهم حق المعرفة؟ ودق قلبه بعنف وشعر بقوة تدفعه إلى الأعلى، فألقى على الباب المغلق نظرة حذرة، وأنصت في انتباه وقلق، ثم تحول عن موقعه، وقطع الردهة أمام الشقة على أطراف مشطه متجها صوب السلم الأخير الصاعد إلى السطح: لعلها هي. لم يعد يراها منذ ألقى برسالته المطوية تحت قدميها، لا في الحجرة ولا في الصالة. اختفت غاضبة ولا شك غير عابئة برسالته وعواطفه، ولم تعد ساعات الدرس بعدها إلا عذابا وضجرا. وقد ارتقى السلم دون أن يحدث صوتا حتى بلغ البسطة الأخيرة فرأى شعاع الشمس المائلة للغروب في مستوى عينيه، ونسمت على جبينه موجات لطيفة من الهواء، وألقى على السطح نظرة شاملة ما بين سوره المطل على عطفة نصر الله، والسور الخلفي فلم يجد أثرا لإنسان، ولم يكن به من قائم إلا حجرتان خشبيتان للدجاج، إحداهما في مواجهة باب السطح، والأخرى في ركن السطح عند طرف السور الخلفي، وهي الخاصة بأسرة فريد أفندي، واقترب من الحجرة البعيدة في سكون ووقف قريبا من بابها مرهف السمع، ولم يسمع بادئ الأمر إلا قوقأة الدجاج، ثم سمع صوتا يدعو الدجاج «ك ك ك ك» فلم يستطع أن يتبين حقيقة صاحبه، وخاف أن تكون الأم التي بالداخل فتراجع خطوة مضطربا، وهم بالهروب، ولكن فتح الباب وبدت على عتبته بهية في معطف أحمر. واتسعت عيناها الزرقاوان دهشة، وثبت بصرها عليه في ذهول، ثم تضرج وجهها بحمرة شديدة كأن صفحته استحالت رقعة من مخمل المعطف. ولكن لم يدم هذا إلا لحظات، ثم تمالكت نفسها فجازت العتبة وأغلقت الباب، وابتعدت عن موقفه متجهة إلى الباب. ولم يسمح لها بالإفلات فوثب خطوتين ووقف معترضا سبيلها، فحدجته بنظرة غضبى، واستقام رأسها في حدة وقالت مستنكرة: هذا كثير!
فقال الشاب بجرأة ورقة معا: دائما غضبى! إني أعجب لحظي فما أجد منك غير الغضب! فلاح في وجهها الضجر، وقالت باستياء: دعني أمر من فضلك.
فبسط ذراعيه وكأنه يريد سد الفراغ كله وقال: هذه فرصة لم يكن بوسعي أن أحلم بها، فلا يمكن أن أدعها تفلت من يدي. ويحق لي أن أستبقيك بعض الوقت بعد اختفائك المتعمد الذي عذبني أشد العذاب، لماذا تختفين؟ أو دعيني أسألك ماذا وجدت برسالتي؟
فقطبت في استياء وقالت بحدة: أتذكر هذه الورقة! يا لها من جرأة غير محمودة لا أوافق عليها!
وكان يرنو إليها بين الأمل والخوف؛ «هل أصدق هذا الغضب الظاهر؟ قلبي يحدثني بأنه مبالغ فيه، لعله عرض من أعراض الحياء. إنه كذلك حتما؛ لو أرادت أن تشق طريقها ما وسعني منعها، لا أريد أن أصدق. ولكن لماذا أصرت على الاختفاء؟» وقال باستعطاف: جرأة حملت عليها بعد أن أعياني الصبر!
فهزت رأسها متبرمة وتمتمت: الصبر! لا تعبث بهذه الألفاظ، ودعني أذهب من فضلك.
فقال في صدق وحرارة: ما قلت إلا الصدق، والصدق وحده كان محرضي على كتابة رسالتي الصغيرة، فكل ما بها صدق. وإنه ليسوءني كل الإساءة ألا تلقى عواطفي منك إلا الغضب والنفور!
وازدرد ريقه وهو يلهث، ثم استدرك قائلا بصوت متهدج: أجل، إني أحبك.
Неизвестная страница