ثم عضها الندم على ما قالت فتضاعف حزنها ويأسها. وسمعت أطيط حذاء يقترب فرفعت رأسها نحو الباب فرأت شابا يدخل الحجرة هاشا، وأقبل على العروس فالتحمت يداهما، وتبادلا ابتسامة سعيدة، ثم سألها: أين والدتك؟ - في حجرتها.
ثم التفتت إلى نفسية، وقالت تقدم لها الشاب: حسان خطيبي.
ثم عطفت رأسها إليه قائلة: ست نفيسة الخياطة.
20
وغادرت بيت العروس قبيل الأصيل متعبة. وكانت عطفة نصر الله تبعد عن البيت محطتين فشقت طريقها بين السابلة على مهل وتراخ، وأنعشها الهواء البارد فحثت خطاها. ووجدت ذكريات مما مر بها في بيت العروس تنثال على مخيلتها في لذة وألم معا؛ كانت تجلس على كنبة وقد جلس الخطيبان على الكنبة المقابلة. كانا ملتصقين، وكانا يتحدثان في صوت مسموع حينا، وينخفض حينا فيصير مناجاة وهمسا. وكم ودت وقتذاك أن ترفع رأسها عن الماكينة إليهما، ولكنها خافت وعقلها الحياء أن تلتقي عيناهما بعينيها. ومرة رفعت عينيها من تحت رأسها المنحني فوقع نظرها على ساقين ملتصقتين، ثم انتبهت على العروس وهي تضربه على يده قائلة في لهجة تنم على الدلال والوعيد: حذار!
استغرقها الخيال حتى كادت تصطدم بالمارة ثم دخلها إحساس نهم بالتحرق إلى الحب. لم تحظ طوال حياتها بقلب يحبها ويعطف عليها، ولم تجد من متنفس عن توتر أعصابها إلا في الضحك والسخرية من نفسها وأخواتها والناس، فاشتهرت بالعبث الضاحك الذي تتوارى خلفه مرارة في الأعماق. ولم تكن لها حيلة في إحساسها؛ فالواقع أن غريزتها الأنثوية كانت الشيء الوحيد بها الذي سلم من النقص والضعف، واستوى ناضجا حارا، فلم يخل صدرها من عذاب سجين، وقفت له تربيتها وكرامتها وأسرتها بالمرصاد، ولكن منظرا كالذي رأته اليوم ببيت العروس كان خليقا بأن يهزها هزة عنيفة قاسية. ولما تخايلت لعينيها عطفة نصر الله، عابثها أمل جديد داعبها كثيرا في الأيام الأخيرة. هنالك بقالة عم جابر سلمان التي تقع قبل عمارتهم بقليل، أو هناك سلمان جابر سلمان، ابن عم جابر وصبيه. ولقد اعتادت التردد على البقالة بعد طرد الخادمة لابتياع ما يلزمها، فعرفت الفتى معرفة أخذت تزداد بكرور الأيام. واستحضرت صورة الفتى بقامته الطويلة المائلة للامتلاء ووجهه البيضاوي الأسمر، وعينيه الضيقتين، وتساءلت ترى هل حقا يبدي نحوها اهتماما أو أنها واهمة؟ خيل إليها كثيرا أنه يبتسم إليها في تردد، ولعله لم يستطع أن ينسى بعد أنها كريمة كامل أفندي علي، وكانت على جفوة طلعتها تحظى بمظهر الفتيات المحترمات، أما سلمان فما هو إلا ابن بقال بسيط، ولا تعلو منزلته في دكان أبيه عن صبي. وكانت تعلم بهذا كله، ولكن لم يكن بوسعها أن تنفر من إنسان أيا كان، إذا أبدى نحوها ميلا، لا يسعها إلا أن تحب من يحبها. بيد أنها ردت فجأة إلى فتور وامتعاض وأطبق عليها شبح اليأس القديم؟ وكان قلبها يقول لها: لا تغرري بنفسك ولا تسمحي لكواذب الأمل أن تعبث بعقلك. ارتضي اليأس، واقنعي منه بالراحة وهي السلوى الوحيدة لفتاة مثلك؛ لا مال ولا جمال ولا أب لها. ولكنها كانت تعلم أنها لن تطيع قلبها أو - على الأصح - صوت مخاوفها. وكانت تزداد استسلاما كلما قربت من عطفة نصر الله، وعاودها الأمل والحنان. الله قادر على كل شيء. وكما يقضي عليها بالأحزان، يهب إذا شاء الأمل والعزاء، ما لي من رجاء سواه. ولن يخيب عنده رجاء، لم أجن ذنبا أستحق عليه الهوان، ولم تجن أسرتنا ذنبا، فلا بد أن تنكشف هذه الغمة. لكن من سلمان؟ هل يرضى به حسنين؟ إنهم جميعا ذوو كبرياء، ولا أظن الفقر بغالب على كبريائهم. وحسن ليس له من الأمر شيء، حسن! ليته يغير من طبعه وينتشلنا مما نحن فيه؛ لا معاش أبي ولا عملي بكافيين، فماذا صنع هو؟ لن يرضى أحد بسلمان ولن يأتي من هو خير منه. ومن أدراني أنه يفكر في حقا؟! ومالت إلى العطفة تسبقها عيناها إلى بقالة عم جابر سلمان حتى بلغتها. وخطر لها أن تمضي إليها لتبتاع شيئا، أي شيء، ومضت إليه دون تردد. كان عم جابر سلمان العجوز جالسا إلى مكتبه الصغير، عاكفا على دفتر حسابات، بينما وقف ابنه الشاب سلمان جابر وراء الطاولة التي تعترض مدخل الدكان. وانتبه الفتى إليها حال وقوفها أمامه فنظر إليها متهلل الوجه، وقد لمعت عيناه الضيقتان؛ كانت قسماته تشي بالغباء والحيوانية والجبن، وكان شاربه الصغير الشيء الوحيد الذي يمكن أن يتصف بالجمال في وجهه. وأبى إلا أن يبادرها بالكلام فقال: أي خدمة يا ست نفيسة؟
فقالت الفتاة وهي ترمش ارتباكا: حلاوة طحينية بقرش.
فتناول السكين وقطع لها قطعة وافية، ثم قشط قطعة صغيرة وهو يقول بصوت منخفض: هذه الزيادة إكراما لك يا ست نفيسة.
ولف الحلاوة في ورقة وقدمها لها، ثم أخذ القرش وهو يلحظ أباه بطرف خفي، ولما وجده مكبا على الدفتر، تشجع وقال همسا: سأحتفظ بقرشك بركة!
فابتسمت ابتسامة خفيفة وذهبت. ابتسمت عمدا كأنها تشجعه وترحب به، وقد كلفها هذا جهدا كبيرا، «لم يعد يقنع بلغة العيون فتكلم، وحسنا فعل.» وعلى رغم ضآلة شأنها ومنظره اهتز قلبها سرورا، وجاش صدرها بالانفعال. وكانت تخيلت هذا الموقف - قبل أن يحدث - وهي عاكفة على عملها ببيت العروس؛ فلم يفترق الواقع عن الخيال إلا قليلا. تخيلت نفسها واقفة أمامه لتبتاع الحلاوة فجعل يلتهمها بعينيه، ثم قال لها وهو يتناول القرش «أنت أحلى من الحلاوة.» حقا لم يقل هذا، ولكنه قال قولا يضاهيه. وتنهدت بارتياح، ثم طار خيالها إلى ذكريات عشاقها الغابرين! كان أولهم وزيرا، وقد رأته في صفحة من مجلة المصور ثم راحت تنسج حول صورته وشيا من أحلامها حتى أنجبت له غلاما فريدا، وكان فريد أفندي محمد نفسه العاشق الثاني، وبسببه خاصمت في الخيال زوجه وأسرته. أما سلمان فهو أسوأهم حالا، ولكنه العاشق الوحيد الحقيقي. ولما بلغت منتصف الفناء خافت أن تلومها أمها على قضاء النهار خارج البيت فضاق صدرها، وقالت كأنما ترد عليها: كفي عن لومك؛ فما عدت أحمل أكثر مما بي.
Неизвестная страница