وأمر السائق بالسير فانطلقت السيارة، ولم يفارقها شعورها بالغرابة في أثناء الطريق، ثم غشيتها سحابة حزن وخوف لإحساسها بأنها تتدهور إلى ما لا نهاية. لم يسبق لها قبل هذا المرة أن ذهبت مع رجل قبل تعارف طويل أو قصير، ولو بعد رؤيته مرتين أو ثلاثا، إلى أنها لم تكن تخلو من رغبة. أما هذه المرة فها هي تستسلم لعابر سبيل، مدفوعة بالطمع وحده، وبلا أدنى رغبة! أي تدهور وأي نهاية؟! ترى كيف عرف أنها ضالته؟! هل انقلب وجهها - على دمامته - يشي بتدهورها ؟ وتقبض قلبها فرقا، وجبهتها حيرة قديمة جديدة معا، بين أن تتزين فتبدو في هذه الهيئة المبتذلة أو أن تتعطل فتكشف عن دمامتها النقاب؟! ووضع الرجل كفه على يدها وقال بصوت ملعثم: جميلة كالقمر!
ولم يفتر ثغرها عن ابتسامة كما كانت تفعل قديما، وتمتمت: لست من الجمال في شيء.
فقال مستنكرا: لا تخلو امرأة من جمال!
كاذب أو مخدوع فلشد ما يعمي الفسق العيون، وقالت ببساطة: إلاي!
فنقر بأصبعه على ثديها وقال: لولا جمالك ما وجدت هذه الرغبة!
ودت لو تستطيع أن تصدق قوله، ولكن هيهات! فلم تظفر بأحد يحبها أكثر من ساعات، لعله يعربد أو يخرف أو يعاني مرارة اليأس مثلها سواء بسواء، لقد كابدت من الرجال ما جعلها تحقد عليهم، ولكن دون أن تخمد لهذا رغبة جسدها الذي يسيمها الهوان فكرهته كما تكره الفقر. ما هي إلا أسيرة للجسد والفقر، ولا تدري كيف تستنقذ نفسها منهما، جرفها التيار وجرحتها الصخور، فلم تعد ترى من خير في أن تأوي إلى الشاطئ عارية مثخنة بالجراح وبلا نصير أو رحيم، ثم سمعت صوته يقول متنهدا «وصلنا» فالتفتت إلى الخارج فرأت السيارة تدور مع طريق دائري تقوم على جانب منه الأشجار الضخمة كأشباح عمالقة، وعلى الجانب الآخر يجري النيل في رقعة عظيمة من الظلمة إلا ما انغرس في جناحه البعيد من رماح الأنوار المنثالة من المصابيح، وقالت كالمتسائلة: الجزيرة؟
فضحك ضحكة فاجرة وقال بلهجة ذات مغزى: تعرفينها طبعا.
وتريث ريثما غادر السائق موضعه واختفى في الظلام، فخلع نظارته وهو يقول: أريني شطارتك؛ فكل شيء يتوقف عليها.
كان هرما مجنونا، يكاد ينز خمرا، وانهال عليها بمداعبة غليظة فعضها بوحشية وراح يقرصها حتى أوشكت أن تصرخ، ولاحت في الجو نذر هزء وسخرية، ثم تعب حتى اليأس، انفرج عن إحساس بالغرابة ومغالبة الضحك، وأخيرا ارتمى مخمورا وقال بصوت غليظ: مدي يدك إلى مقعد السائق وناوليني الزجاجة.
ورفع سدادتها وعل منها ثم أسلم ظهره إلى المسند، وراح يتنفس تنفسا ثقيلا غليظا. ولم تعد تحتمل ثقل الانتظار فقالت برجاء مشبع بالتودد لأنها تعلمت أن تخاف هذه الآونة أكثر من أي شيء آخر: آن لنا أن نعود.
Неизвестная страница