ودهش البك وكأنه كان يتوقع كل شيء إلا هذا الطلب الأرستقراطي، وتساءل دون أن يخفي دهشته: ولماذا اخترت هذا الباب الضيق؟!
وتألم الشاب لما لاح في وجه الرجل من دهشة، وكرهه لحظتها كراهية عمياء، بيد أنه قال بنفس اللهجة المتوددة المهذبة: يبدو لي يا سعادة البك أنه توجد فرصة ذهبية هذا العام لم يوجد مثلها في السنين الماضية؛ لما تعتزمه الحكومة من زيادة عدد الجيش، ومهما يكن من أمر فشفاعتك أهم من كل شيء!
وتساءل البك باقتضاب: والمصروفات؟!
وكرهه مرة أخرى، وسرعان ما تناسى رجاء المجانية أو صمم على أن يؤجله لفرصة أخرى وقال بثقة وطمأنينة: إني على استعداد لأداء المصروفات كاملة!
ففكر البك مليا ثم قال: إن وكيل الحربية صديق قديم، وسأحدثه بشأنك.
فكان جواب حسنين أن أقبل على يده يحاول تقبيلها، فسحبها الرجل ونهض قائما - ربما إنهاء للزيارة - فقنع حسنين بالانحناء على يده مسلما، وكرر الشكر، وغادر السلاملك، مرح الصدر بالأمل، وذكر وهو يقطع الحديقة فتاة الدراجة، وتمثلت صورتها وهو يرنو إلى أثر العجلتين في الممشى، ولكن لم يدم هذا إلا لحظة قصيرة، ثم استأثر بوعيه كله مستقبله وآماله.
60
في نفس الساعة كانت نفيسة في ميدان المحطة، كانت السماء تتخشع لهبوط المساء، على حين واصل الميدان في حياته الصاخبة يستبق على أديمه الإنسان والحيوان، والترام والسيارات، وكانت الفتاة واقفة على طوار تمثال نهضة مصر، تنتظر انقطاع تيار السيارات لتعبر الطريق إلى محطة الترام، فلاحظت أن رجلا واقفا على بعد أذرع منها ينظر إليها نظرة غريبة باتت مع الأيام تفهمها حق فهمها. وتولتها دهشة وتساءلت: حتى هذا؟! كان رجلا في الستين! يجمع في جسمه بين ترهل العمر ووقاره، مرتديا بدلة صوفية على حرارة الجو، ويقبض بيده على مذبة أنيقة عاجية المقبض، ويضع على عينيه نظارة زرقاء، وقد انحسر طربوشه المائل إلى الوراء عن جبهة عريضة لفحت الشمس أسفلها، وبدا أعلاها لامع البياض فيما فوق حز الطربوش، أما سوالفه وما لاح من قذاله فشديد البياض، وثار في أعماقها حب استطلاع وطمع؛ ولذلك لم تغادر موقفها حين انقطع تيار السيارات، وحولت نحوه عينيها فوجدته ما يزال يحدق فيها، وكأنه تشجع بنظرتها، فتقدم منها في خطوات ثقيلة وهمس هو يمر بها: اتبعيني إلى سيارتي.
ثم واصل سيره إلى سيارة واقفة لصق الطوار مثله في الهرم والوقار، يكاد يعلو سلمها عن الطوار شبرين، ويقف عند بابها سائق كالتمثال، وصعد إليها دون أن يغلق الباب وراءه وأمر سائقه فاتخذ مكانه خلف عجلة القيادة؛ ماذا يريد الشيخ؟ وابتسمت خواطرها في تشوف، ثم عادت تنصت إلى همس الطمع، وكأنه استبطأها فخلع نظارته ثم أومأ لها بيده، فما تمالكت أن ابتسمت، وألقت على ما حولها نظرة متفحصة، ثم اتجهت نحو السيارة، يحدوها الطمع وحده لأول مرة. وأوسع لها فجلست إلى جانبه، وما عتمت أن سطعت أنفها رائحة الخمر الفائحة من فيه، فاستحوذ عليها القلق، وقالت: لا أستطيع أن أتأخر.
فقال بلسان ثقيل: ولا أنا أيضا!
Неизвестная страница