وتساءل أهل الفرغانة في جزع: وما ذنبنا ونحن لا من دعبس ولا من الحلوجي؟ ذلك أنه ما إن تنشب معركة في أي مكان حتى يعصف بهم الذعر؛ فيتوارى كل بما يملك أو بنفسه وراء الأبواب، ولم يكن من النادر أن يشتبك الخصمان فوق أرض الفرغانة نفسها، وهناك ينعق غراب الخراب فتنقلب العربات وتتحطم السلاسل وينفجر الصوات، ويصاب الأبرياء بلا حساب حتى أمست الحياة في العطفة شرا لا يطاق، وفاقت خسائرهم أصحاب النزاع أنفسهم، وكره الحياة منهم حتى السعداء. ويوما استغاثوا برجال الدين فبذل هؤلاء أطيب ما عندهم من مسعى، حتى اتفق العدوان على تجنيب الفرغانة ويلات معاركهم. وكان يوم عظيم أرخت به الفرغانة لطمأنينتها، ولكن أية طمأنينة؟ .. لقد كلفتهم ما يطيقون وما لا يطيقون من حسن السلوك، وطيب المجاملة، والحرص على الحياد في المعاملة حتى ضاعت في ذلك أموال، وابتذلت كرامات. وكلما فاض بهم الهم فأوشكوا على التمرد ذكروا الزمان الأول بمآسيه، فازدردوا الألم صابرين، ولكنهم رغم ذلك كله نعموا بفترة سلام نسبي لم يعرفوها من قبل.
حتى نزلت إلى الحارة نعيمة بنت عم الليثي بياع الكبدة.
فعندما ضعف بصر العجوز، حتى لم يعد يفرق بين النكلة والمليم اصطحب معه نعيمة لتعاونه في عمله. نزلت إلى العطفة وهي في مطلع سن الزواج، وتصدت للمعاملة في جلباب غطاها من العنق إلى الكعبين، ولكنه وشى بقوام معتدل، ونمت التصاقاته العفوية بأجزاء الجسد عن بضاضة، إلى امتياز الوجه باستدارة ريانة في لون الدوم الرائق، وعينين لوزيتين في لون الشهد المصفى تعبث في نظرتهما حيوية شباب مستجيبة في سذاجة للإعجاب. ورمقتها عيون الشباب باهتمام، وانجذبوا إلى فرن الكبدة القائمة فوق عربة اليد كما ينجذب الذباب إلى السكر. وما لبث أن قرأ عم الليثي العجوز الفاتحة مع شاب بياع بطاطة يدعى الحملي. وانتظر الناس الأفراح ولكنهم عندما اجتمعوا مساء يوم بقهوة التوتة - وقد سميت كذلك لوقوعها تحت أفرع شجرة توت - قرءوا الكدر واضحا في وجه الرجل الذابل. وسأله صاحب القهوة: ما لك يا ليثي كفى الله الشر؟
فأجاب العجوز متنهدا: المنحوس يجد العظم في الكبدة!
تطلعت إليه الرءوس من فوق الجوز وأقداح القرفة والشاي، فقال باقتضاب ذي معنى: نعيمة! - ما لها؟ .. حصل من الحملي عيب؟
فهز الرجل رأسه المعمم بلاسة منقطة، وقال: لا دخل للحملي في همي، ولكن قابلني الأعور فتوة دعبس بلطف غريب، ثم قال لي: إنه يطلب القرب في نعيمة!
تجلى الاهتمام في الأعين مشوبا بانزعاج، ثم سأله سائق كارو: وماذا قلت له؟ - ارتبكت .. وبكل صعوبة قلت: إن فاتحتها مقروءة مع الحملي، فصاح: الأعور يجيئك بنفسه تقول له الحملي؟! الحقيقة أنا انذعرت. - ثم؟
فامتلأت غضون وجهه بالقرف وهو يقول: مددت يدي، وأنا لا أدري وقرأت معه الفاتحة! - وفاتحة الحملي؟ - قابلته، واعترفت له بوكستي فحزن الولد الطيب، ولكنه لم يتكلم ثم ذهب.
تبادلوا النظرات في صمت ارتفعت في رحابه قرقرة الجوز، فقرر صاحب القهوة أن يخفف عن العجوز الألم، فقال بأريحية: لا لوم عليك، أي واحد منا في مكانك يتصرف كما تصرفت، صل على الهادي وهون عليك.
فضرب العجوز حجره بقبضته هاتفا: ولكن المصيبة لم تقف عند هذا الحد!
Неизвестная страница