لم تكن خديجة تهتم في تلك اللحظة بالإقناع بقدر ما تهالكت على إيجاد مخرج لها، ولو بتحويل الأذهان إلى أمور هي بالمعابثة أشبه تمهيدا للتقهقر، فالفرار من أسلم السبل الممكنة كمن يقع في مأزق حرج، وتعوزه الحجة في الدفاع عنه، فيلجأ إلى المزاح ليمهد لنفسه مفرا في ضجة من السرور بدلا من الشماتة والازدراء؛ لذلك قالت: أعرف لهما تأثيرا ساحرا في كل من يتصل بك، ياسين ... فهمي ... حتى كمال، فلماذا لا يكون لهما نفس التأثير عند أبي؟
فتورد وجه عائشة وقالت بانزعاج: كيف أخاطبه في هذا الشأن، وأنا لا تقع علي عيناه حتى يطير ما في رأسي؟!
عند ذاك - وبعد أن تهربوا تباعا من المهمة الخطيرة - لم يعد يشعر أحد منهم بتهديد مباشر، ولكن النجاة لم تعفهم من إحساس بالذنب، بل لعلها كانت أول دافع إليه، حيث إن الإنسان يركز تفكيره في النجاة عند الخطر، حتى إذا ظفر بالنجاة عاد ضميره يناوشه، كالجسم الذي يستنفد حيويته كلها في العضو المريض، حتى إذا ما استرد صحته توزعت حيويته بالتساوي على الأعضاء التي أهملت إلى حين، وكأن خديجة أرادت أن تتخفف من هذا الإحساس، فقالت: ما دمنا نعجز جميعا عن مخاطبة بابا فلنستعن بجارتنا ست أم مريم.
وما إن نطقت باسم «مريم» حتى لحظت فهمي بحركة عكسية، فالتقت عيناهما لحظة قصيرة في نظرة لم يرتح الشاب لإيحائها، فأشاح عنها بوجهه متظاهرا بعدم الاكتراث، ذلك أن اسم مريم لم يجر على لسان أمام فهمي منذ نبذت فكرة خطبتها، إما مراعاة لعواطفه، وإما لأن مريم اكتسبت معنى جديدا بعد اعترافه بحبها سلكها في زمرة المحرمات التي لا تتسامح تقاليد البيت بلوكها علانية حيال صاحب الشأن، وبالرغم من أن مريم نفسها لم تنقطع عن زيارة الأسرة متظاهرة بجهل ما دار بشأنها وراء الأبواب ... ولم تفت ياسين لحظة الارتباك المتبادل بين فهمي وخديجة، فأراد أن يغطي على أثرها المحتمل بتوجيه الانتباه إلى وجهة جديدة، فوضع يده على كتف كمال، وقال بلهجة بين التهكم والتحريض: هذا رجلنا الحق، هو وحده الذي يستطيع أن يرجو والده ليعيد إليه أمه!
لم يحمل كلامه محمل الجد أحد، وأولهم كمال نفسه، بيد أن قول ياسين وثب إلى ذاكرته في اليوم التالي، وهو يقطع ميدان بيت القاضي عائدا من المدرسة، بعد نهار مضى أكثره في التفكير في أمه المنفية، فتوقف عن السير صوب درب قرمز، والتفت إلى طريق النحاسين مترددا وقلبه المحزون يتابع خفقاته في كآبة وتألم، ثم غير طريقه متجها نحو النحاسين في خطوات متباطئة، دون أن يجمع عزمه على رأي، يسوقه العذاب الذي يعاني لفقد أمه، ويرجعه الخوف الذي يركبه لمجرد ذكر أبيه، فضلا عن مخاطبته أو التوسل إليه، لم يكن يتصور أنه يستطيع أن يقف بين يديه محدثا في هذا الأمر، ولم تغب عن شعوره المخاوف العسية بأن تحيق به لو فعل. ولم يصمم على شيء إلا أنه رغم هذا كله واصل السير البطيء، حتى لاح لعينيه باب الدكان كأنما ينزع إلى إرضاء قلبه المعذب، ولو إرضاء عميقا - كالحدأة التي تحوم حول خاطف صغارها دون أن تجد الشجاعة على مهاجمته - وتدانى من الباب حتى وقف على بعد أمتار منه، وطال الوقوف وهو لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يستقر على رأي، وفجأة خرج من الدكان رجل وهو يقهقه عاليا، وإذا بأبيه يتبعه حتى عتبة الباب مودعا، وهو يغرق في الضحك كذلك، فأذهلته المفاجأة، فتسمر في مكانه مستشرفا وجه أبيه الضاحك الطليق في إنكار ودهشة لا توصفان، لم يصدق عينيه، وخيل إليه أن شخصية جديدة قد حلت في جسم أبيه، أو أن هذا الرجل الضاحك - على ما به من شبه بأبيه - شخص آخر يراه لأول مرة، شخص يضحك، ويغرق في الضحك، وينطلق البشر من وجهه كما ينطلق الضوء من الشمس، واستدار السيد ليدخل فوقع بصره على الغلام المتطلع إليه بذهول، فأخذته الدهشة لموقفه وهيئته على حين استردت أساريره بسرعة مظهر الجد والرزانة، ثم سأله وهو يتفرس في وجهه: ماذا جاء بك؟!
وللحال دبت في أعماق الغلام غريزة الدفاع عن النفس - رغم ذهوله - فتقدم من أبيه، ومد يده الصغيرة إلى يده، وتطامن عليها حتى لثمها في أدب وخشوع دون أن ينبس بكلمة، فسأله السيد مرة أخرى: أتريد شيئا؟!
فازدرد كمال ريقه وهو لا يجد ما يتلفظ به إلا أن يقول مؤثرا السلامة «إنه لا يريد شيئا وإنه كان في طريقه إلى البيت» ولكن السيد استبطأه فلاح في وجهه الضيق وقال بخشونة: لا تقف كالصنم وقل ماذا تريد.
ونفذت خشونة الصوت إلى قلبه فارتعد، وانعقد لسانه فكأن الكلام قد التزق بسقف حلقه، فازداد الأب ضيقا وهتف بحدة: تكلم ... هل فقدت النطق؟!
وتجمعت قوته كلها في إرادة واحدة، وهي أن يخرج من صمته بأي ثمن اتقاء لغضب أبيه، ففتح فاه قائلا كيفما اتفق له: كنت عائدا من المدرسة إلى البيت ... - وماذا أوقفك هنا كالمعتوه؟! - رأيت ... رأيت حضرتك فأردت أن أقبل يدك!
فتجلت في عيني السيد نظرة استرابة، وقال بجفاء وتهكم: أهذا كل ما هنالك! ... أوحشتك لهذا الحد! ألم تستطع أن تنتظر إلى الصباح لتقبل يدي إذا أردت؟! اسمع ... إياك وأن تكون قد عملت عملة في المدرسة ... سأعرف كل شيء ... فقال كمال بسرعة واضطراب: لم أعمل شيئا وحياة ربنا.
Неизвестная страница