ملأ ياسين صدره بالهواء، ثم نفخ وهو يعبث بأنامله في ارتباك ظاهر وتمتم قائلا: والدنا رجل ناري الغضب لا يقبل مراجعة لرأيه، وأنا من ناحيتي لم أعد غلاما، بل صرت رجلا وموظفا كما تقولين، وأخوف ما أخاف أن ينفجر في غاضبا، فيفلت مني زمام نفسي ويثور غضبي بدوره!
وغلبهم الابتسام على أعصابهم المتوترة وأنفسهم المحزونة فابتسموا، وأوشكت عائشة أن تضحك فأخفت وجهها في كفيها، ولعل حالهم المتوترة نفسها مما هيأهم لقبول الابتسام كمسكن وقتي للتوتر والألم كما يحدث للنفوس أحيانا عند اشتداد الحزن من الاستسلام للطرب لأتفه الأسباب على سبيل التخفيف عن حال بأضدادها، ذلك أنهم عدوا قوله نوعا من الدعابة الجديرة بالضحك والسخرية، وكان هو أول من يعلم بعجزه التام عن مجرد التفكير في الغضب أو المقاومة حيال والده، وأول من يعلم أنه قال ما قال فرارا من مواجهة أبيه واتقاء لسخطه، فلما رأى هزءهم لم يسعه إلا أن يبتسم بدوره وهو يهز منكبيه كأنما يقول لهم «دعوني وشأني.» فهمي وحده بدا متحفظا في ابتسامه لشعوره بأن القرعة ستصيبه قبل أن تغيب ابتسامته، وصدق شعوره إذ أعرضت خديجة عن ياسين في ازدراء ويأس، وخاطبته قائلة برجاء وإشفاق: فهمي ... أنت رجلنا!
فرفع حاجبيه في ارتباك متطلعا إليها بنظرة كأنما يقول لها: «أنت أدرى بالعواقب!» حقا كان يتمتع بمزايا لا يتمتع ببعضها أحد في الأسرة؛ فهو طالب بمدرسة الحقوق، وهو أكبرهم عقلا وأنفذهم رأيا، وله من ضبط النفس في المواقف الحرجة ما يدل على الشجاعة والرجولة، ولكنه سرعان ما يفقد جملة مزاياه إذا مثل بين يدي أبيه، فلا يعرف غير الطاعة العمياء. وبدا وكأنه لا يدري ماذا يقول فحثته على الكلام بإيماءة من رأسها فقال متحيرا: هل ترينه يقبل رجائي؟ ... كلا ... ولكنه سينهرني قائلا: «لا تتدخل فيما لا يعنيك.» هذا إذا لم يثر غضبه، فيوجه إلي كلاما أشد وأقسى!
وارتاح ياسين إلى هذا الكلام «الحكيم» الذي وجد فيه دفاعا عن موقفه أيضا، فقال وكأنه يكمل رأي أخيه: وربما جر تدخلنا إلى محاسبتنا من جديد على موقفنا يوم خروجها، فنفتح على أنفسنا فتحة لا ندري كيف نسدها!
فالتفتت الفتاة نحوه مغيظة محنقة وقالت بمرارة وسخرية: لا منك ولا كفاية شرك!
فقال فهمي الذي استمد من غريزة «حب البقاء» قوة جديدة للدفاع عن نفسه: فلنفكر في الأمر بعناية شاملة ... لا أظنه يقبل لي أو لياسين رجاء ما دام يعتبرنا شريكين في الخطأ، وعليه فالقضية خاسرة إذا تقدم أحدنا للدفاع عنها، أما إذا حدثته واحدة منكما فلعلها تنجح في استعطافه أو لعلها تجد - على أسوأ الظنون - إعراضا هادئا لا يبلغ حد العنف، فلماذا لا تحدثه إحداكما؟ ... أنت مثلا يا خديجة؟!
فانقبض قلب الفتاة التي وقعت في الشرك، وحدجت ياسين لا فهمي بنظرة غيظ وهي تقول: ظننت هذه المهمة أخلق بالرجال!
فقال فهمي مواصلا هجومه السلمي: العكس هو الصحيح ما دمنا نتوخى نجاح المسعى، ولا تنسي أنكما لم تتعرضا لغضبه طول حياتكما، إلا في النادر الذي لا يقاس عليه، فهو يألف الرفق بكما كما يألف البطش بنا!
فأطرقت خديجة متفكرة في قلق غير خاف، وكأنها خافت إن طال صمتها أن تشتد عليها الحملة، فتستقر المهمة الخطيرة في قرعتها، فرفعت رأسها قائلة: إذا كان الأمر كما تقول، فعائشة أخلق مني بالكلام! - أنا! ... لمه؟!
نطقت بها عائشة في فزع من وجد نفسه في مرمى الخطر بعد أن اطمأن طويلا إلى موقف المتفرج الذي ليس له من الأمر شيء، خاصة وأنها - لحداثة سنها وغلبة إحساس الطفولة المدللة عليها - لم تكن تندب لشيء هام فضلا عن أخطر مهمة يمكن أن تعرض لأحد منهم، إلا أن خديجة نفسها لم تجد فكرة واضحة لتبرير اقتراحها بيد أنها أصرت عليه في عناد مشبع بالمرارة والتهكم، فقالت تجيب شقيقتها: لأنه ينبغي الانتفاع بصفرة شعرك وزرقة عينيك في إنجاح مسعانا! - وما دخل شعري وعيني في مواجهة أبي؟!
Неизвестная страница