أحدها: أن يكون الفعل حسنا أو قبيجا لذاته أو لصفة لم يعن به إن ذلك يقوم بحقيقته لا ينفك عنها محال مثل كونه غرضا أو كونه مفتقرا إلى محل يقوم به، وكون الحركة والسواد لونا، ومن ها هنا غلط علينا المارعون لنا عن المسألة وألزمونا ما لا يلزمنا، وإنما يعني بكونه حسنا أو قبيحا لذاته أو لصفته أنه في نفسه منشأ للمصلحة والمفسدة وترتبهما عليه كترتيب المسببات على أسبابها المقتضية لها، وهذا كترتب الري على الشرب، والشبع على الأكل، وترتب منافع الأغذية والأدوية ومضارها عليها، فحسن الفعل أو قبحه هو من حسن كون الدواء الفلاني حسنا نافعا أو قبيحا ضارا، وكذلك الغذاء واللباس والمسكن، والجماع، والاستفراغ، والنوم والرياضة وغيرها، فإن ترتب آثارها عليها ترتيب المعلولات والمسببات على عللها وأسبابها، ومع ذلك فإنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأماكن والمحل القابل، ووجود المعاريض فيختلف الشبع والري عن اللحم والخبز والماء في حق المريض ومن به علة تمنعه من قبول الغذاء لا يخرجه عن كونه مقتضيا لذلك لذاته حتى يقال لو كان ذلك لذاته لم تختلف؛ لأن ما بالذات لا يختلف، وكذلك يختلف الانتفاع بالدواء في شدة الحر والبرد في وقت تزايد العلة لا يخرجه عن كونه نافعا في ذاته، وكذلك تخلف الانتفاع باللباس في زمن الحر مثلا لا يدل على أنه ليس في ذاته نافعا ولا حسنا، فهذه قوى الأغذية والأدوية واللباس ومنافع الجماع والنوم تتخلف عنها آثارها زمانا ومكانا وحالا وبحسب القبول والاستعداد فتكون نافعة حسنة في زمان دون زمان ومكان دون مكان، وحال دون حال، وفي حق طائفة أو شخص دون غيرهم، ولم يخرجها عن ذلك كونها مقضية لآثارها بقواها وصفاتها، فكذا أوامر الرب تبارك وتعالى وشرائعه، وسواء كان منشأ المصلحة ونافعا للمأمور في وقت دون وقت فيأمر به تبارك وتعالى في الوقت الذي علم أنه مصلحة فيه ثم ينهى عنه في الوقت الذي يكون فعله فيه مفسدة على نحو ما يأمر به الطبيب بالدواء والحمية في وقت هو مصلحة للمريض وينهاه في الوقت الذي يكون تناوله فيه مفسدة له، بل أحكم الحاكمين الذي بهرت حكمته العقول أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص، وهل وضعت الشرائع إلا على هذا، قال: وكذلك كلما نسخه تعالى من الشرائع بل الشريعة الواحدة كلها لاتخرج عن هذا وإن خفي وجه المصلحة والمفسدة على أكثر الناس، قال: وقرر أنه إذا نسخ آية أو حكما أتى بخير منه أومثله وإنه على كل شيء قدير، قال: ثم نبه سبحانه على حكمته البالغة في أن جعل القبلة أولا في بيت المقدس ليعلم سبحانه واقعا في الخارج ما كان معلوما له قبل وقوعه من تتبع الرسل في جميع أحواله وينقاد له ولأوامر الرب تعالى.... كيف كانت وحيث كانت، فهذا هو المؤمن حقا الذي قد أعطى العبودية حقها :{ ومن ينقلب على عقبيه} من لم يرسخ الإيمان في قلبه ولم يستقر عليه قدمه فعارض وأعرض، ورجع على حافرته وشك في النبوة، وخالطت قلبه شبهة الكفار الذين قالوا: إن كانت القلبة حقا فقد خرجتم عن الحق وإن كانت باطلا فقد كنتم على باطل، وضاق عقله المنكوس عن القسم الثالث الحق وهو أنها كانت حقا ومصلحة في الوقت الأول ثم صارت مفسدة باطلة بالاستقبال في الوقت الثاني، ولهذا أخبر سبحانه عن عظم شأن التحويل والنسخ في القبلة فقال: { وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } ثم قال فهذا معنى كون الحسن والقبح ذاتيا ناشئا من ذاته، ولا ريب عند ذوي العقول أن مثل هذا يختلف باختلاف الزمان والأمكنة والأحوال والأشخاص.
Страница 80