ثم نهضت لتلقاه عند الباب فاستوقفتها الكونتة، وقالت: مكانك ... دعيه يأت إليك، فربما كان في حالة لا يستطيع معها لقاءك.
فامتثلت وجلست تصغي إلى قول المتكلمين عند الباب في غرفة المدخل ثم صاحت: وا خيبتاه! هذا صوت امرأة.
ثم سارعت إلى الباب، ففتحته؛ فرأت مدام «درميلي» والدة المركيزة الحسناء، فابتدرتها هذه بالكلام، وقالت: عفوا يا سيدتي عن قدومي إليك في مثل هذا الوقت، ولكن الأمر من فوق يدي والعذر فيه واضح وجيه، لقد علمت أنك تنتظرين رجوع المسيو «ديلار»، فهل تريدين أن تخبريني بمكانه؟ - وفيم تسأليني هذا السؤال يا سيدتي؟ - لو كان المعترض غيرك من النساء لما علمت كيف أجيب، ولكنك صافية النفس كملائكة السماء؛ ولذلك أخبرك أني أفتش عن ابنتي، وأعلم أنها توجد حيث يكون المسيو «ديلار».
هأنذا قادمة من هناك وقد سألت عنها، فما عرفوا لها خبرا، فعدت إلى المنزل، فرأيت على مكتبها كتابا باسمي تقول لي فيه إني لن أراها ألبتة من بعده، فإنها لم تقدر على فراق المسيو «ديلار»، فنالني من جراء ذلك قلق لا مزيد عليه، فجئتك أنشدك الله أن تخبريني بمكانهما. - هما في «أوتوبل». - وهل أنت على يقين من ذلك؟ - لا شك عندي ولا ريب، فقالت الكونتة: هذا الذي كنت أحاذره، فقد هربا معا لا محالة. - حبذا ما تقولين، وإني أسأل الله تحقيق ظنك. - ما معنى هذا الكلام ؟! - إني لا أخاف عليهما الهرب، وإنما أخاف الموت، فإن ابنتي لتطلبه ولا تخشاه بما أعلم من حدة مزاجها، والتهاب فكرها، وحبها العظيم ل «ڤكتور». - الموت، الموت! ويلاه! وا مصيبتاه! طيروا بنا إلى «أوتوبل».
ثم لم تلبث لتلقي على كتفيها شالا يقيها البرد، بل اندفعت إلى الدرج طالبة باب المنزل، فتبعتها الكونتة ومدام «درملي»، فركبن العربة، وصاحت «ماري» بالسائق: إلى «أوتوبل» إلى «أوتوبل»، انهب الأرض، واقتل الخيل ركضا، فأطلق للفرسين العنان فسارا متباريين كأنهما فرسا رهان، وكانت مدام «درميلي» قد عادت إلى حديث كتاب «أليس» وما فيه من المعاريض والأقوال المبهمة، وكيف أنها ودعت آل بيتها من غير أن تظهر حقيقة الأمر أو تورد كلمة تدل على المكان الذي تقصده، غير أن «ماري» لم تكن تعي شيئا من الحديث، بل كانت مشردة الفكر ضائعة الرشد حتى وقفت العربة أمام درابزين الحديقة، فوثبت من نافذتها ولم تنتظر أن يفتح السائق بابها، وكان السكوت مستوليا على البيت، فلم تسمع منه صوتا ولا حركة، فطفقت تجر سلك الناقوس بعنف وقوة ولا تسمع جوابا، فقالت الكونتة: قد ارتحلا وما في المنزل أحد، فصاحت مدام «درميلي»: إنهما في المنزل، فأيقظوا أقرب حداد إلينا يفتح هذا الباب.
وكانت «ماري» مستمسكة بعروة الجروس تهزها هزا متداركا غير متنبهة لشيء مما حولها حتى عاد الخادم بالحداد، فاقتلع أقفال الباب، فدخلوا الدار و«ماري» في المقدمة تعدو عدو الصغار من غرفة إلى غرفة، ومن مكان إلى آخر بلا ضوء ولا دليل، وتنادي «ڤكتور» بأعلى الصوت فلا تسمع جوابا، ثم جيء بالشمع وأخذت مدام «درميلي» والكونتة العجوز تجوسان خلال الأماكن والغرف، فرأتا غرفة النوم ومكان البليار والأندية كلها خالية، ثم فتحتا مقعد المغسل فهب عليهما ذلك الأرج الشديد فاستوقفهما، وصاحت مدام «درميلي»: إنهما في هذا المكان - مشيرة إلى غرفة الزهر - فافتحوا الباب، وإن كان مقفلا فاقتلعوه.
ففتح الباب واندفعت «ماري» إلى الغرفة، فرأت المركيزة على المقعد و«ڤكتور» تحت أقدامها وهما كالجليد، وليس فيهما حراك فصاحت: طبيب، طبيب، احضروا طبيبا، فلعلهما لا يزالان بقيد الحياة.
وقالت الكونتة: اكسروا زجاج النوافد والشبابيك، وافتحوا مجاري الهواء، فإن رائحة هذه الغرفة قاتلة.
وقد اعتنقت «ماري» زوجها باكية، خافقة القلب من الوقوف بين الرجاء والخوف، فكانت تبل وجهه بدمعها ، وتدعوه بأرق أسماء المحبين، فلا تسمع منه جوابا، ولا تحس منه حركة، ثم حملت المركيزة إلى سريرها، وما برحت «ماري» معانقة زوجها حتى جاء الطبيب وأخذ في معالجة المريضين بكل ما لديه من الأدوية، ثم مضت على ذاك ساعة ولم يبديا حراكا، فازداد قلق «ماري» وسألت الطبيب عن رأيه، فلم يكن جوابه شافيا، فكانت تقول: ربي! جد عليه بالعافية، واجعلني فداءه.
وما برحت تردد هذا القول أو ما بمعناه حتى قال لها الطبيب: سيشفى يا سيدتي بحول الله، ولكن ربما احتاج إلى المداراة والملاطفة التامة مدة طويلة من الزمان. - لك الشكر، لك الشكر يا سيدي، ولو وهبتك حياتي لما كان ذلك وافيا بحقك علي.
Неизвестная страница