قلت: هم يقولون مثل هذا إذا قصدوا التّنبيه على تناهي الشيء وبلوغه أقصى مأخذه حتى يستغرق أكثر أوصافه على ذلك قول الأعشى، وهو يهول أمره ويعظمه فيما قاساه في الغزل حتى بلي فيه بما لا مزيد على شأنه فقال:
علقتها عرضا وعلقت رجلا ... غيري وعلق أخرى غيرها الرّجل
وعلقته فتاة ما يخاف لها ... من قومها ميت يهذي بها وهل
وعلقتني فتاة ما تلا يمني ... فاجتمع الحبّ حبا كلّه تبل
فكلّنا هائم يهذي بصاحبه ... فآب ودان مخبول ومختبل
فهذا من الباب الذي نحن فيه، وقد فعل الله مثل ذلك فيما ضربه من المثل للكفر والضّلال فقال تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ
الآية، فكما ضرب للهدى المثل بالنّور على ذلك الحدّ من التأكيد ضرب للكفر مثله وعلى حده.
فأما قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ
[سورة النور، الآية: ٣٥] فإنه يحتمل وجهين:
(أحدهما) أن يكون مثل قوله تعالى: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ
[سورة الزمر، الآية: ٢٢] وقوّى بصيرته ونوّر منهاجه وقصده، ويجوز أن يريد بالنّور الذي يهديه له ما يفعل الله بالمؤمنين من إرشادهم إلى طريق الجنة، كما قال في صفتهم: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ
[سورة التحريم، الآية: ٨]، ومثل قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
، قوله تعالى في صفة النبي ﷺ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِدًا وَمُبَشِّرًا*
[سورة الفتح، الآية: ٨] الآية، وهذا واضح بيّن.
قوله تعالى: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ
إلى شِهابًا رَصَدًا
[سورة الجن، الآية: ٨] يقال لمس والتمس بمعنى طلب وحمل عليهما المس أيضا، فالحجة في الأول قوله الام على تبكيه فلا أجده يكشف ذلك قوله: فلا أجده، وفعل، وافتعل يتصاحبان كثيرا، وأما المس وخروجه إلى معنى اللمس فقد استشهد له بقوله:
مسسنا من الآباء شيئا وكلّنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
فقيل المعنى طلبنا في نسب آبائنا هل فيه ما يقتضي ما أنكرناه من أخلاقهم لأنّ المس بالجارحة لا يتأتى في الأنساب، والأحساب، ثم حمل قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
[سورة الواقعة، الآية: ٧٩]، وقيل معناه لا يطلب النّظر في أدلة الله المنصوبة في كتابه العزيز للاقتباس من آدابه وحكمه، والاعتبار بأمثاله، وحججه إلا المطهرون من دنس الشرك ودغل الكفر، ويكون على هذا التأويل الكلام خبرا.
1 / 64