كان القيامة من الغيب الذي استأثر الله بعلمه لما تعلق بخفائه من مصالح المكلفين، فالمتكلم فيه أمّن الكفار واقف من مطلوبه موقف الخزي والخيبة، والرّاجع من مرتاد القيامة يفوت السّلامة.
قوله تعالى: بل أدرك علمهم في الآخرة استهزاء بهم جعل علمهم كالثّمر المنتظر ينعه وتكامله، فإذا تم بلوغه قيل أدرك، وقرىء بل إدارك علمهم، والمعنى تدارك، وهو أبلغ في المعنى لأنّ تفاعل بناء لما يحصل شيئا بعد شيء على هذا قولهم: تداعى البناء وتلاحق القوم وما أشبهه، ثم قال مرزيا بهم ومبطلا لظاهر ما أعطاهم: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ
[سورة النمل، الآية: ٦٦] فانظر كيف ارتجع منهم ما بذله وعلى أي ترتيب رتّبه لأنه قال: بل أدرك علمهم بلسان التّهكم والهزء، ثم حطّهم عن تلك الرّتبة فقال: بل هم في شك منها فضعف علمهم وإدراكهم بالشّبهة العارضة لهم إذ كان الشّك لا يحصل إلا لعارض شبهة، ثم قال: يجهلهم ويردّهم إلى أسوأ منازل الباحث، فقال: بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ
، وقال بعض أصحاب المعاني: بلغني عن ابن عبّاس أنه قرأ: بلى إدارك يستفهم، ويشدّد الدال، وهو وجه جيد لأنه أشبهه بالاستهزاء بأهل الجحد كقولك للرّجل بكذبه والعمى المذكور بإنما هو من الرّي دون البصر، وهذا بيّن والحمد لله.
ومنه قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
[سورة النور، الآية: ٣٥] إلى وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
[سورة النور، الآية: ٣٥] أراد بقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
أنّ الآيات الباهرة الدالة عليه وعلى أنه لا نظير له ولا شبيه، وأنّ العبادة لا تحق إلا له مبينة مضيقة لعذر من شبه بخلقه ظاهرة ظهور المصباح لذي وصفه في المشكاة التي بين أمرها إذا كان الله تعالى خالق الظلم والأنوار، ثم جعل المصباح في زجاجة صافية تشرق إشراق الكوكب المضيء الوقّاد، وقد استصبح ذلك السّراج بزيت من شجرة زيتون قد بورك فيها ثابتة على خط استواء لا شرقية، فيكون خطها منها العشيات فقط بل تستوفي قسطها مما ينمّيها ويربّيها كل وقت حتى إنّ عصيرها إذا اعتصر يقرب من أن يشرق وإن لم تمسه نار، ثم قال: نُورٌ عَلى نُورٍ
[سورة النور، الآية: ٣٥] يعني نور المصباح، ونور الزّجاجة، ونور الزّيت يدل على أنّ أسبابه متعاونة في الإضاءة فكلّ موادها نور مفرد لو اكتفى به في الإشراق لأغنى عن غيره، فيقول: إنّ هذه الأنوار المجتمعة المترادفة مثل لآيّات الله في وضوحها، والدّلالة على وحدانيته، فلا شبهة تعرض لناظر ولا مرية يتسلط على خاطر فكلّ من ضل عمّا دعي إليه فإنما أتى من قبل نفسه وسوء تأنّيه، أو من هو يجذبها إلى الضّلال فيرديه. فإن قيل: هل تعرف في نظوم كلامهم مثل هذا التركيب، والتّلفيق؟ أو هل تعرف في الأمثال المضروبة لتأكيد القصص والأخبار ما أسس هذا التأسيس؟
1 / 63