إنني في نشوة مما أرى، فكم مرة رأيت هذا المنظر وأشباهه في السينما وفي الصور، لكنه لم يحرك النفس جزءا من ألف ألف جزء مما تحركها الطبيعة الحية، ذلك هو الفرق بين الطبيعة الحية الطازجة والطبيعة المحفوظة في العلب، ولأنحرف قليلا عن وصف رحلتي لأقول إن هذا هو بعينه الفرق بين ثقافتنا وثقافتهم، وعقليتنا وعقليتهم؛ هم يفكرون «على الطبيعة» - كما يقول المهندسون - ونحن نفكر تفكيرا «مجففا»، ومن ثم كانت الأصالة عندهم والتقليد عندنا؛ ثقافتنا طبيعة محفوظة في علب تعفنت من طول ما حفظت، وثقافتهم تساير الطبيعة وتواجهها فتتجدد معها في كل ربيع.
هناك في جوف الوادي بيت قائم وحده؛ إنني لأستغني عن كل ما لدي من حبي لوطني واعتمادي على وظيفتي وما أملك من مال قليل بل من ثياب وأثاث، لأعيش في هذا البيت المعتزل؛ أنا صادق في هذه الرغبة، فإذا مررت بمدينة كبيرة لا يطوف ببالي أمنية كهذه، لكنها أمنية تطوف كلما رأيت بيتا قائما في الخلاء وحده بعيدا عن كل آهل ومأهول.
تصور روح الكشف التي دفعت نفرا قليلا من الناس إلى ارتياد هذا الجزء الغربي الجبلي من القارة الأمريكية، ولم تكن بهم حاجة إلى مال؛ فقد كانوا ذوي ميسرة في أوطانهم من الساحل الشرقي، لكنه الكشف وروح المغامرة ... لهذا أتوقع أن أجد اختلافا كبيرا في أخلاق الناس هنا في الغرب عنها في شرق الولايات وجنوبها ... أهل الغرب لا يزال يطلق عليهم حتى الآن اسم «رواد الحدود»؛ لأنهم ارتادوا هذه الأصقاع، فكان عليهم أن يقاتلوا الهنود الأصليين من سكان البلاد، كما كان عليهم أن يذللوا هذه الطبيعة المستعصية إلا على ذوي الإرادة الحديدية القوية.
إنه لا عجب في أن يكون من أقوى ما يطبع الروح الأمريكي روح المغامرة، فكيف بدءوا حياتهم؟ ألم تكن بدايتهم هجرة من أوروبا فرارا من الاضطهاد الديني وحرصا على حريتهم؟ جاءوا إلى هذه الأرض الجديدة لينشئوا لأنفسهم حياة جديدة في بلد جديد كانوا يجهلونه، وكان عليهم أن يرتادوه وأن يمهدوه ... بدأت المغامرة في الخلق الأمريكي منذ البذور الأولى، أتمها هذا النفر من رواد الحدود الذين زحفوا من شرق البلاد إلى غربها، وفي أقل من مائة عام صنعوا هذا كله.
وأعود فأقول ما أبعد الفرق بين الرائد الكاشف وبين من يمشي بعد ذلك في الطريق الممهدة! إن الإنسان ليقاتل الطبيعة أول الأمر حتى إذا ما أذعنت له عاد بدوره فأذعن لها وسكن إليها سكون العابد في محرابه، فذلك البيت الصغير المعتزل هناك في جوف الوادي لا يكون إلا لعابد خشع للطبيعة وهي متشحة بكل هذا الجلال.
القطار ما يزال ينثني ويعتدل ثم ينثني؛ إنه يدور حول السفح في شبه دائرة كأنه لعبة الطفل.
الثلج يزداد كثافة كلما سرنا نحو الشمال، كان المنظر بادئ ذي بدء أكثره خضرة وأقله بياض، فأصبح الآن أكثره بياض وأقله خضرة.
أمامي الآن جبل يختلف عن كل ما مررنا به من جبال؛ لأنه جبل عاري الصخور مدبب القمم، في أعلاه قمم ثلاث كل منها مربع الشكل مدبب الأطراف، إنه يشبه أن يكون قلعة من قلاع العصور الوسطى ... سألت إن كان لهذا الجبل اسم، فقيل لي إن اسمه «جبل القلعة» ... القطار الآن ينثني أحد انثناءة له في الطريق حتى ليكاد ينطبق على بعضه نصفين، وتسمى هذه الانحناءة «بالقنطرة»، وهي عند منبع نهر ساكرامنتو، وليس ببعيد أن تكون «القنطرة» كلمة مأخوذة من مثيلتها في اللغة العربية، جاءت إلى هنا على ألسنة الإسبان.
يسير القطار مع نهر ساكرامنتو عند منبعه في انعراجاته وانثناءاته؛ إذ لا يسعه غير هذا؛ فالنهر عند منبعه مجرى ضيق في واد عميق، تحف به جدران الجبل من ناحيتيه، فليس أمام القطار إلا بطن الوادي عند مجرى النهر ...
زادت كثافة الثلج حتى لترى أطراف الأشجار العليا بارزة من أكداس الثلج كرءوس الحراب، وبقيتها غريق في الثلج، كما يحدث لأعواد الذرة في مصر حين يدركها فيضان النيل، فيغرقها الماء إلى شواشيها ... عجيب منظر الثلج يملأ الدنيا عاليها ووطيئها رغم إشراق الشمس بكل هذا الصفاء والوهج؛ إنني لا أكاد أصدق أن الدنيا خارج القطار باردة كل هذا البرد الذي يملأ الأرض والجبال ثلجا؛ إن بيني وبين الثلج المتراكم لوح من زجاج، أرى الثلج خلال زجاج النافذة وأنا في مكاني الدافئ، ألا إنه لبرهان أقوى برهان على أن رؤيتك للشيء لا علاقة لها بإحساسك بذلك الشيء، فهكذا الغنى والفقر والصحة والمرض؛ الغني يرى الفقير ويعلم أنه موجود، ويعلن أنه شاعر بشعوره حاس بإحساسه، مع أن ذلك ضرب من المحال، إلا أن يوهب الإنسان عبقرية لا حد لها في مشاركة الناس مشاعرهم وإحساسهم، وإلا فهل يمكن لي الآن في مكاني هذا الدافئ أن أرتعش من البرد لمجرد أنني أرى الثلج خارج زجاج النافذة؟ هذا مستحيل، مهما حدقت النظر في الثلج الذي لا يبعد عني إلا بوصات قليلة.
Неизвестная страница