الفصل الثاني عشر
مؤتمر عزرائيل ويوضاس
- لقد وجدت حلا للمشكل يا سيدي سنتورلي، وإنما يستوجب منتهى الإقدام وكل الدربة. - أدامك الله يا سيدي. - لم يكن غرضنا أن نجعل أنفسنا أولياء لأمر جوزفين، وإنما كنا نبغي أن نقصيها عن مصر وبالتالي عن الأمير نعيم. - نعم، ولكن لم يصح حسابنا؛ لأننا ما أودعناها في قصر العزبة ... إلا على نية أن نقذفها بعدئذ إلى مكان قصي، وهناك ندفعها إلى السجن بحيلة إبليسية، ولكننا حبسناها في سجنها الحالي ولم نعد نستطيع إخراجها منه لئلا ينفضح أمرنا، وأما أننا نبقيها في سجنها فأمر متعذر علينا جدا؛ لأننا لا نضمن أن يبقى أمرها مكتوما إلى أن تنقضي حياتها، كما أننا لا بد أن نمل السهر عليها ومراقبتها، والحق أقول لك إنه مر علي هذا العام وأنا لا أنام ليلة إلا مشغول البال؛ لأني أخاف أن يهتدي إليها ويعرف أمرها فتنفضح كل أسرارنا؛ ولذلك أرى أنه لا بد من إخراجها جسما بلا روح ودفنها قرب ذلك القصر. - وهذا لا نضمن دوام خفائه يا مسيو سنتورلي، ألا تدري أن ثلاثة أشخاص صاروا فاهمين سرنا تقريبا؛ وهم: «كتينا» الكهلة، وسليم، وعلي. وكل سر جاوز الاثنين شاع، بل إني صرت أخاف أن ينفضح سرنا على يدهم وجوزفين حية، فالأفضل أن ينفضح وهي جثة باردة. - يالله! أتريد أن تقول «أنا الغريق فما خوفي من البلل؟!» - إنك لجاهل غر، بل أريد أن أقول الأفضل أن تنفضح الجريمة فيها تحت ذقن غيرنا. (وضحك الأمير عاصم ضحكة الوجل.) - تحت ذقن من؟ - دعنا نتكلم بحرية يا سنتورلي، لا ريب أن الأمر يهمك كما يهمني؛ لأنك أصبحت يدي العاملة في هذه الجرائم، فعلينا أن نشتغل معا يدا واحدة في صيانة أنفسنا من يد القانون والقضاء. - الحق ما تقول، فما رأيك؟ - أنت تعلم مطامعي السابقة بالأميرة نعمت، أكلمك بحرية؟ - نعم نعم، أعرف جيدا أنك كنت تهواها وتطمع بيدها وإرثها كما أن الأميرة بهجت كانت تطمع بالأمير نعيم. - أما الآن فقد تحول حبي السابق إلى الانتقام الحاد؛ لأن نعمت هانم رفضت طلبي مرارا، وأخيرا رفضته بتاتا ولم يعد لي أقل مطمع بها البتة، وقد انتهى آخر اجتماع بيننا على عدائنا المتبادل؛ لأنها أغلظت لي القول، وأهانتني وأفهمتني بصراحة أنها تكرهني؛ لأني كنت السبب في حرمانها من أحمد بك نظيم الوكيل، ولكنها لحسن الحظ لم تفهم حقيقة القوة التي منعت بها أحمد من قبول يدها؛ لأن أحمد لا يقدر أن يعترف بجريمته التي يسهل علي أن أبرهنها من رسالته التي أرسلها لك يوم اتفق مع الداية عائشة على دهورة الطفلين ابن جوزفين وابن الأميرة نعمت، وأنت تعلم أن هذه الرسالة عندي كتهديد له، وقد نهيته عن أن يتقرب من نعمت هانم فأطاع صاغرا، ولما عرفت الأميرة بذلك حنقت علي جدا وصارت تبتغي أن تنتقم مني وتغيظني، فالآن أنا وهي عدوان يجاهران بالعداوة؛ ولذلك أود أن أنتقم منها شر نقمة، أما الأمير نعيم فحسبي ما انتقمت منه لأختي، فهو الآن كالمجنون يطوف في مدن أوروبا. - ورأيك أن تلطخ الأميرة نعمت بجنايتنا بإعدام جوزفين. - نعم . - إنها لفكرة حسنة جدا، ولكن تستلزم إعمال الذهن جيدا لئلا تنعكس النتيجة علينا. - لا شك في ذلك؛ ولهذا قلت لك إن الحل الذي اهتديت إليه يحتاج إلى إقدام عظيم ودربة فائقة؛ ولذلك أود أن أخسر كل شيء في سبيل الفوز بهذه المكيدة؛ لأنك لا تعلم مقدار اغتياظي من نعمت، وألذ شيء عندي الآن الانتقام الشديد منها، الانتقام الانتقام يا سنتورلي! - إذا كان الانتقام يهمك فأنا لا يهمني. - ولكن لك مصلحة كمصلحتي في طريقة هذا الانتقام؛ لأنه بينما أنا أنتقم من نعمت نطرح عن عاتقنا ثقل الجريمة التي اجترمناها بخطف جوزفين وإخفائها. - ولكن مصلحتك مزدوجة ومصلحتي مفردة. - وماذا تعني؟ - نحن غير متساويين في ما نحصل عليه من نتيجة المكيدة. - تريد علاوة على ما يصيبك؟ - نعم.
فقال الأمير عاصم ضاحكا: لله منك ما أطمعك! إن نجحت في هذه المكيدة التي هي آخر المكايد، كان لك ربع العزبة التي هي سجن جوزفين الآن. - بقي أن نضع خطة هذه المكيدة، فلا بد أن تكون قد افتكرت بها مليا. - افتكرت، ولكن الفكر شيء والعمل شيء آخر، فلا يجوز أن يكون الفكر فكري وحدي إذا كنت أنت العامل وحدك. - إذن قل لي خلاصة الخطة التي افتكرت بها، وثم نعد لها حسب الاقتضاء. - لا بد من نقل جوزفين سليمة إلى قصر الأميرة نعمت هانم. - لا ترفع صوتك؛ فإني أخاف أن يسمع. - لا تخف، إن صوتنا بعيد جدا عن الآذان؛ فإننا في منتصف الليل الآن وكل الخدم نيام. - ولكني سمعت مثل وقع أقدام خفيفة. - ليس ما سمعته إلا وهما.
وعند ذلك وثب سنتورلي إلى باب القاعة وفتحه وأطل إلى الرحبة، وقال: «من هنا من الخدم؟ فليأتنا بكأس ماء.» فلم يجبه أحد، فعاد مطمئنا. - أمن أحد خارجا؟ - كلا، الكل نيام. - قلت لا بد من نقلها سليمة إلى قصر الأميرة نعمت. - نعم، ولكي تضمن سكوتها يجب أن تكون منومة، فتخرج من سجنها كما دخلت؛ ولذلك عليك أن تدس في طعامها جرعة أفيون كافية. - إلى هنا كل شيء سهل، ثم أخرجها في منتصف الليل وأضعها في عربة مقفلة وأسوق بها وحدي إلى أمام قصر الأميرة نعمت، وثم كيف أدخل القصر؟ - في تلك الليلة التي تنقل فيها جوزفين أدس في طعام أحمد خادمي مخدرا فلا ينتصف الليل حتى يكون قد انزعج، فأستدعي أباه، وهو كما لا يخفى عليك بواب قصر نعمت هانم، فيقفل بوابة القصر ويهرول مسرعا ويلتهي بابنه، وحينذاك أحتال عليه وآخذ مفتاح البوابة منه وألاقيك في الحال، فنفتح وندخل جوزفين إلى حيث نستطيع من أروقة القصر. - حسن، قل أدخلناها، ثم ماذا؟ - ثم لا أسهل من القضاء عليها حينئذ، فقد أعددت لك هذه الزجاجة الزرقاء وفيها محلول الستركنين وهذه الحقنة، فتملأ الحقنة من المحلول وتحقنها بها في ذراعها تحت الجلد، فلا يمضي عليها ربع ساعة حتى تصل روحها إلى ربها. - لله درك! لا اعتراض لي على هذه الخطة؛ فإنها على ما أرى مضمونة النجاح، إذا نجحت أنت في أخذ مفتاح القصر. - أرجح أني أنجح. - قلت لا بد من نقلها إلى قصر نعمت هانم نائمة لا مائتة، فلم أفهم سر ذلك، فلماذا لا ننقلها مائتة؟ - أخاف أن يتعذر علينا إدخالها إلى القصر ونضطر أن نرجعها إلى سجنها، وحينئذ يجب أن نحييها؛ إذ لا يوافقنا أن تخرج من عندنا مائتة أو أن تدفن عندنا؛ لأنني لا أضمن خفاء أمرها هناك كما قلت لك. - الحق معك، وماذا يجب أن تعتقد حارستها وسليم وعلي بشأن خروجها؟ - يكفي أن تخبر الحارسة أنك ستأخذها لكي تسافر بها في قطر منتصف الليل، وإن في عزمك أن تمضي بها إلى أوروبا لكي تبعدها عن عشيقها وتفرجها من سجنها هذا خوفا على صحتها، ثم تنام في تلك الليلة في غرفتك هناك، ومتى انتصف الليل تخرجها نائمة من الباب السري من غير أن يستيقظ أحد. - بقي أن نرى الموعد الموافق لذلك. - أرى أن مساء الاثنين ليلة الثلاثاء القادمة أفضل فرصة لهذه المهمة الخطيرة؛ أولا لأن القمر يكون مختفيا كل الليل، وثانيا لأن الأميرة نعمت هانم تنام ليلئذ قبل منتصف الليل على ما أرجح؛ لأنها تكون في الليل السابق قد سهرت للصبح في حفلة زفاف صديقتها الأميرة فاطمة هانم. - حسن جدا، إذن بعد خمسة أيام تكون جوزفين قتيلة في قصر الأميرة نعمت. - وهل تظن أن مهمتنا تنتهي عند ذلك وتتم النقمة؟ - لا لا، فهمت ... يجب أن يبلغ البوليس عن وجود قتيلة في قصر الأميرة. - هذا علي، وهو أسهل من السهل، أرسل كتابا سريا في ذلك الصباح إلى إدارة البوليس.
وعند ذلك تناول سنتورلي الزجاجة التي ملأها الأمير عاصم محلول ستركنين ووضعها في جيبه ومضى.
الفصل الثالث عشر
بيد العناية السموية
مضى على جوزفين في ذلك السجن القصي نحو عام وهي لم تر بشرا غير تلك الكهلة اليونانية أويقات قليلة في النهار، أما سليم وعلي فلم يؤذن لهما البتة أن يصعدا إلى الطبقة العليا من المنزل، وجل ما عرفاه أن الخواجه جاك سيدهما قد حبس زوجته فوق ليمنعها عن عشيقها، فكانا يأتمران بأمر تلك الكهلة الحارثة كما تشاء، وأما سنتورلي فكان ينام بعض الليالي في الغرفة المجاورة لغرفة جوزفين؛ لكي يوهم الخدم أنه نائم عند امرأته.
ولا ريب أن يدرك القارئ ما قاسته جوزفين في ذلك السجن المرتفع وهي لا تقدر أن تشكو أمرها لأحد؛ فإن تلك اليونانية حارستها لم تكن لتشفي لها غلا البتة؛ لأنها غريبة اللغة عنها، فإذا احتاجت جوزفين أمرا حارت كيف تبلغه إلى حارستها، وهذه لم تكن مطالب جوزفين لتهمها؛ إذ لم يكن واجبا عليها أن تلبي لها طلبا؛ لأن وظيفتها انحصرت في تقديم الطعام والشراب لها، وإخراجها في بعض الأمساء إلى البلكون فقط.
Неизвестная страница