أما الأمير عاصم فتجاهل كل ما يعرفه عن أمر هذه الرسالة، وتظاهر أنه لا يدري شيئا، ولا لاحظ أمرا، وعند ذلك قال الأمير نعيم: أرجو منكم أن تؤذنوا لي أن أختلي في مخدعي؛ لأني أشعر بحاجة شديدة إلى النوم.
ثم دخل إلى مخدعه وجعل يتأمل تلك الرسالة والغم يضغط على نفسه حتى كاد يزهقها.
ردد في ضميره كل ماضي حياته مع جوزفين فلم يذكر أنه أساءها أو أساء إليها مرة بأمر من الأمور، ثم تأمل جيدا كل دقائق معاملتها له فلم يتبين من تلك الدقائق ما يدله على تغير قلبها عليه حتى آخر ساعة من ساعاتهما معا، بل بالعكس يذكر أنها في أيامهما الأخرة كانت أشد تعلقا به، حتى إنه يستحيل عليه أن يشك بإخلاصها له.
ثم جعل يفكر في صلتها بالآخرين فلم تخطر له أقل شبهة بأحد من معارفها ولا استطاع أن يصدق ظنه بميلها إلى أحد؛ لأنه كان يعلم أنها عديمة الاكتراث بأحد سواه.
بقي أكثر من ساعة يفكر فلم يتقلقل اعتقاده بإخلاصها وأمانتها له، ولكن ما معنى هذه الرسالة؟ فقد خطرت له عدة خواطر محزنة ومضحكة بشأنها؛ فتارة كان يظن أن جوزفين تلعب دورا معه بغية الضحك، وطورا يظن أنها تختبر مقدار غيرته عليها بهذه اللعبة، وحينا يفتكر أنها أساءت الظن به وحسبته مال إلى سواها فهجرته ... إلى غير ذلك.
وكان كل هنيهة بعد أخرى يتأمل الرسالة فيراها ناطقة صريحة لا تحتمل التأويل، فيحار في أمره ويكاد يحبس تنفسه من شدة الغم. ولا بد أن يشعر القارئ بحالة الأمير نعيم وهو في قمة حزنه وقهره، ولا سيما إذ عرف ما اتصف به هذا الأمير من الصفات الحميدة المجيدة التي هي فخر الرجال: حبه الصادق لجوزفين، بل تولعه بها وثبوته على هواها، وتمسكه بالمبادئ القويمة، وظهوره في كل حركة من حركاته بمظهر الكريم الأنوف المقدام.
وقبيل الظهر استأذنته شقيقته نعمت هانم ودخلت عليه وجلست على كرسي أمامه وقالت: أرجو أن تكون هذه الرسالة التي قرأتها خففت أحزانك يا أخي نعيم. - لا لا يا نعمت، بل أضرمت في وطيسا من الغم. - ولكن حزنك الآن يختلف عن حزنك أولا؛ ففي الأول كان مقرونا بقلق وإشفاق، أما الآن فبغضب ونقمة على ما أظن. - لقد أخطأ ظنك يا نعمت؛ فإني إلى الآن لا أزال أعتقد أن جوزفين غير خائنة وأنها تحبني.
فضحكت نعمت ضحكة الهازئ. - لا تضحكي يا نعمت؛ لأن كل نبرة من ضحكك طعنة في فؤادي. - يكاد قلبي يتمزق لأجلك يا أخي نعيم، فلست أضحك إلا لتجاوز حزني حده، فما الذي يحملك على الظن أن جوزفين لا تزال تحبك، وأنها لم تخنك؟ أليست رسالتها صريحة العبارة؟ - نعم صريحة، ولكني أعرف جوزفين يا نعمت، أعرفها جيدا وأعرف أن لها قلبا مجبولا بحبي، لا يمكن أن يتجرد من هذا الحب إلا بفنائه ، وقد مر علينا في حياتنا كثير من الحوادث برهنت فيها جوزفين على حب قوي لم يسمع بمثله ولا في الروايات؛ ولذلك لا أقدر أن أعتقد أنها تكرهني. - ماذا أقول لك ... - لا تقولي شيئا بهذا الموضوع لئلا تجرحيني. - إذن بماذا تعلل رسالتها هذه؟ - لا أدري، لقد جننتني هذه الرسالة يا نعمت، وكثيرا ما لاح لي أنها مزورة، ولكني أعرف خط جوزفين جيدا، فلا أقدر أن أشك بأن الرسالة خط يدها، وإن ثبت أنها مزورة فما أقدر الكاتب على تقليد خطها! - ولكن إذا كانت الرسالة مزورة، فأين جوزفين؟ - قد تكون مغتصبة، والرسالة مزورة بغية تغيير قلبي عليها حتى لا أبحث عنها، وهذا آخر ما رجح لي، لاحظي الخط، ألا ترين أنه مضطرب قليلا، الأمر الذي يدل على التزوير؟
فتأملت نعمت هانم الرسالة وأصرت شفتيها كأنها تقول: لا ألاحظ ما تلاحظه أنت! فقال لها: نعم قد لا تلاحظين الدقائق التي ألاحظها في الخط؛ لأني ألفت خط جوزفين طويلا، وصرت أميز بين حرف وحرف من كتابتها. - مهما يكن الأمر، يجب عليك أن تخفف عنك يا أخي، فإن غمك لم نر مثله في حياتنا، فإن كانت جوزفين خائنة فيجب أن يكون جزاؤها جام نقمتك، وإن كانت أمينة تثبت على أمانتها إلى أن يقيض الله لها أن تعود إليك. - لا يطمئن لي بال ما لم أكتشف أمرها، فإن صدق ظنك بأنها خائنة أهملتها، وإن صدق ظني بأنها أمينة فلا بد أن تكون مقيدة عني فيجب أن أسعى إلى خلاصها. - ولكن ما غرضها بأخذها الصبي يوسف معها؟ ألا تظن أنها تقصد بأخذه أن يكون برهانا للناس على تحصنها وعفافها؟ - لا أدري يا نعمت، لا أدري، لقد طار صوابي، سأسافر غدا إلى أوروبا وأطوف لعلي أعثر عليها أو على الصبي. - ليس هذا الرأي صائبا، وهو مدعاة إلى هزء العائلة؛ لأنهم لا يعرفون جوزفين إلا محظيتك، فإذا علموا أنك لحقتها لتبحث عنها بعدما هجرتك سخروا بك، بل سخروا بنا كلنا، وأنت تعلم أن هفوة الكبير بألف هفوة، وهم ينظرون إليك بعد سيئة مكبرة جدا، ويعتقدون أنك فخر شبان الأسرة بعقلك وعلمك وأخلاقك، فإذا فعلت ما تقول هدمت كل اعتقادهم بك. - كفى كفى يا نعمت، إن تخوفي من القيل والقال هو الذي حرمني من إسعاد جوزفين كما أريد، إن لي عقلا ولي قلبا فأريد أن يخدم عقلي قلبي لا أن يضحي به على مذبح الترهات والأباطيل وخرافات الأقدمين، فليعلم أبناء أسرتي أن جوزفين زوجتي وأني أبحث عنها. - هكذا يكون العار أعظم؛ لأنك بذلك تقر أن زوجتك خانتك وأنك لا تزال تبحث عنها. - آه، آه! دعيني يا نعمت، ليقل الناس ما يقولون، إني أتبع جوزفين، جوزفين أمينة ولا بد أن تكون مكرهة على هذا الهجران، لا بد أن أعثر عليها في أوروبا، فغدا أنا مسافر.
عند ذلك خرجت نعمت هانم من عند أخيها وقلبها يتقطع عليه حزنا، غير أنها لم تعتقد ما ظل يعتقده بأمانة جوزفين، بل اقتنعت تمام الاقتناع بأنها خائنة، وانتظرت فرصة أخرى لتقنعه بذلك.
Неизвестная страница