مرت أيام ولم أقابل عبد الله، كنت أفتقده، كنت أفكر هل سأخبره؟ هل فقد اهتمامه بي وصب شغفه بها؟ سأقبله كما هو، سأقبل شخوصه؛ من عرفت منهم ومن أجهل، سأذهب إليه وأخبره بكل ما أعرفه عني، وعنه، سنلملم جراحنا، ونداوينا بنا، التملك التام، الحرية الكاملة، كل الأضداد تجتمع في صورته، لم أكن أصدقه، بل ما أعجبني هو كذبه، والآن صدقته؟ صدقت رباط الدم بكفينا؟ صدقت نفسي؟ لم يكن لي، بل كان معي، هو معي، ولم أكن له، بل كنت معه، لا أغار منها، لكنني أخاف عليه، ستقتل تمرده، ستربطه بمقعدها، ستحيل كل تمرده لقوائم الغذاء والراحة، ستقتل فيه جرأته ، جنونه، تطفئ عينيه، وتذبل ابتسامته، سيقرأ الجرائد بدلا من الفلسفة، يشرب الحليب بدلا من النبيذ، سيكفر بكفره، ويعود متعبدا مسكينا في محرابها، سيتوب عني فأنا عنوان حريته، لن أكون هي، أنا لست هي، أنا، أنا. •••
كانت الأفكار تسابق القطار، لكنه وصل القاهرة قبل أن أصل لضالتي، وصلت لورشته «الأتيليه» كما يسميه، ابتسمت لصوته في أذني وهو يقولها، كنت أمام السلم، خلعت حذائي، وبدأت الصعود، لم أحمل نفس المشاعر التي حملتها دوما في صعودي إليه، تتجه السلمات الحجرية لأعلى بينما روحي تنزلق لأسفل، أشعر أنني خارج إطار الصورة الخشبي، لا أراني حافية تتقافز لأعلى السلم بألوان باهتة، جفت الألوان ولم أظهر بها، لم يكن يوم الصعود، انتعلت حذائي ونزلت بأحلام خافتة تتوارى بأحلام أخرى كانت صارخة، لم يسمعها أحد، كانت مجنونة سخرت منها الملابس الرسمية، ورابطات العنق، كانت طفلة تدعي الأنوثة، سلمة أخرى يهبطها الحلم، وسلمة أخيرة يتركني الحلم ويتمدد بها، لم أغادر البيت القديم كما دخلته، فقد أثقلني الفراغ، ولا يظهر من منارة ابن طولون سوى قبعة تعلوها، لا يصلها من صعد، لا يصلها من يلامس الأرض، لا يصل لقمة بالأرض إلا الهابط من السماء، أو ربما الساقط منها. •••
خرجت من البناية منادية العم نصر، أردت البقاء قليلا عند حافة السماء، لم أكن أريد التنعم بالجنة، ولم أكن أيضا مستعدة للابتعاد، لا ضير من الانتظار خلف الأسوار، قد يلحقني شهاب، يحرقني، أو ينير لي الطريق. - يا مرحب يا مرحب. - هل لديك بعض الشاي لي، عم نصر؟ - على رأسي ومن عيني.
أحضر كرسيا متهالكا لأجلس عليه وجلس بحافة الرصيف الحجري يعد الشاي، أقسم لي أن الأكواب نظيفة، أزحت الكرسي جانبا وجاورته على حافة الرصيف، لا أعرف من أي عصر أتى هذا العجوز الصامت الثرثار، لا يتوقف عن الحديث في اللاشيء، ويحل به صمت القبور إن اقتربت في الحديث من أي شيء.
أحاديث القاهرة، وأربعين عاما قضاها أسفل تلك البناية، يعرف عدد أحجار الرصيف حتى القلعة من هذا الطريق وحتى مسجد السيدة زينب في هذا الاتجاه، يعرف أسرار ابن طولون، من تبارك به، من عتب عليه، ومن أثناه، ويعرف عبد الله، عشرين عاما قضاها الأخير بسطح البناية، كان العجوز يعرف ما أريد سماعه، لكنه في حاجة لدافع يكسر صمته، «هل تزوجه ابنتك يا عم نصر؟»
ابتسم العجوز لحيرتي، ربما أشفق على توسلي بسؤالي الأخير، كان مهذبا، لطيفا، كان أيضا حنونا، عجوز ريفي، سطرت الدنيا بوجهه ما سطرت، وبلغ من الحكمة حد الصمت، لكنه سيكسر صمته متحسسا كلماته لي، سيخبرني عن عبد الله، سيطفئ ناري، سيمنحني سببا للاستمرار للنهاية أو للاختفاء التام، أشعر بقرب النهاية.
الدكتور عبد الله رجل طيب، غني لكنه رحيم، ربما يمتلك قصرا لكنه يحب هذا المكان، يتحرر فيه من ثرائه ويتصرف بلا تكلف، يأتي إليه الكثير من تلاميذه يعلمهم الرسم، ونعم، تأتي له الكثير من الفتيات، هو شاب يحب الجمال، لكن لم تخرج من عنده فتاة باكية، الجميع يخرج من عنده مبتسما.
تبدين فتاة بسيطة من أصل طيب، فلا عجب أنك لا تعرفين شيئا عن الأغنياء، أما أنا فقد كنت أعيش في قصر حين كنت في العاشرة، لا تتعجبي، نعم كنت أعيش في قصر، شرفته تمتد من مجلسنا حتى تلك المئذنة، [مشيرا بيده لمئذنة ابن طولون] هم يرتدون أوجها كثيرة يخفون بها ما بداخلهم، يبتسمون ليخفوا غيظهم، يبكون ليخفوا أحقادهم، يظهرون قوتهم ليخفوا ضعفهم، يحتاجون لبعض الوقت دون أقنعة، هنا في هذا السطح يسكن الدكتور عبد الله دون قناع، إنسان بسيط، يشعر بمن حوله، يسعدهم، ويشاركهم أوجاعهم، لكن هل يفعل هذا في قصره؟ في عمله؟ لا أعلم يا بنيتي، ربما يسخر من الفقراء كما كانوا يسخرون مني حين كنت صغيرا.
كنت ابن كبير الطباخين، أعجبتهم سمرتي، فكان على أبي إحضاري في كل الحفلات، لأرتدي الزي الرسمي وأقف بجوار الباب، غير مسموح لي بالكلام أو الحركة، أقف كباقي التماثيل المتناثرة، ولن أحدثك بنيتي عن ممارساتهم الغريبة؛ فلا يليق إخبارك كل ما يفعلون.
أخجل أن أسألك عن المشكلة، لكن إن كنت تحبين هذا الرجل، أو هناك مشكلة لا يمكنك البوح بها؛ فاعلمي أنك لن تعيشي معه في القصر؛ فكما عرفك هنا، ستعيشين هنا، ولا تطمعي في أكثر من هذا.
Неизвестная страница