بدت له سهام بعينيها العميقتين، وصوتها الناعم الحزين، كأنما تستنجد من ألم دفين!
وبدت له صورة زوجها، ذلك العابث المستهتر، وهو يمعن في إيلامها بمجونه واستهتاره!
ومست قلبه نسمة إشفاق ورثاء لهذه الزوجة التعسة، التي صبرت حتى ضاق بها الصبر، وأحس أنه يوشك أن يغفر لسهام ما حدث، لكن سرعان ما ثارت به عواطفه، وبدت له صورة خيانتها من جديد؛ فقفزت إلى عينيه الدموع، وأحس بنفسه وهو يجفف قطراتها، فغلبه الحياء وأخذ يتجلد!
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم بعد الحادث بعشرة أيام، حين جلس يقص قصته على صديق يخلص له الود، قال لهذا الصديق وهو يختم حديثه: وها أنا يا صاحبي ما زلت حائرا ... إن أشد ما يؤلمني أنني لا أملك حتى حق الشكوى والصراخ، كلا، ولا أستطيع أن أبكي كما أشاء.
وأجابه صديقه وهو يبتسم مزدريا آلامه: الحقيقة أن سهام إن لم تفعل شيئا غير هذه الخيانة؛ لاستحقت منك التقدير!
ونظر إلى صاحبه مذهولا، وأوشك أن يفتح فمه، لولا أن استطرد هذا الصديق: ألا تكفي تعاسة أسرة واحدة؟ لقد كانت عاطفتك هذه كفيلة بإفساد حياتك الزوجية، لو لم تخن سهام هذا الحب الذي لا تدري هي عنه شيئا لدام هذا الحب، لو أنها ظلت الزوجة الوفية للزوج المستهتر؛ لنما حبك وترعرع تحت ستار العطف والحنان، لكن الآن ...
فقال مقاطعا: الآن ماذا؟ - لا شيء، ستبكي بضعة أيام، لكن دموعك لن تتساقط على خديك، إنها ستنزل في قلبك، فتعفي على هذا الحب، إنك في أشد الحاجة إلى هذه الدموع.
إنه لا يزال يذكر هذا اليوم، ولا يزال يذكر أنه أحس فعلا بقطرات هذه الدموع، تنزل في قلبه فيبرد رويدا رويدا ...
عيون على الكرمل
- أي سلعة تعنين يا سيدتي؟ - السلعة التي أنفقت في سبيلها ما أنفقت، عشر ليرات ستعطيها إلي كما اتفقت مع ليون، وعشاء فخم، وأجر حجرة في هذا الفندق، ويعلم الله ماذا دفعت لليون نفسه من أجر، هل أنفقت ذلك لوجه الله؟ - لوجه الشيطان كما تعتقدين، لكن ما رأيك في أني غيرت رأيي؟ - ماذا تعني؟ أتريد نقودك؟ - بل أدفع فوقها مثلها! - لا أفهمك! - ألم يقل لك ليون؟ - بلى، قال لي ، قال إنك ستقضي معي ليلة، وتدفع لي عشر ليرات، وأجر الفندق، وأتعابه هو. - حسنا، هذه الليلة لي أن أنال فيها ما أشتهي. - دعني أضع هذا التحفظ، ما يشتهي رجل من امرأة! - إنك مسرفة في التشاؤم يا سيدتي، قد يشتهي الرجل غير ما تظنين، قد يشتهي حديثا ممتعا تشع عليه خلاله عينا امرأة، قد يشتهي مثلا أن يجلس كما نجلس نحن الآن في شرفة الفندق، يتأمل جبال الكرمل الشماء وقد تربعت في حجرها مباني المدينة هاربة من البحر، وقد سخا القمر بأشعته فغمر الكون، وألقى بقية من ضوئه على سطح الماء و... - ماذا؟! أتدفع بضعا وعشر ليرات لكي تقول شعرا؟ - بل أدفع نصف حياتي لكي أسمعه، وحياتي كله لمن تلهمني إياه. - يا مسكين! لقد أخطأت ضالتك، وسلكت غير السبيل. ... إنني أدعى «رفقة» عند العرب الذين لا يعرفون لغة إفرنجية، و«ربيكا» عند من يجيدون الرطان، وأتقاضى في الليلة عشر ليرات فلسطينية، أتقاضاها لأقضي ليلة في حجرة، لا في شرفة، دع جبال الكرمل في حالها إذن، وخل القمر كما يشاء، فسوف يعلم يوما مدى خطئه، تعال بنا إلى الداخل، فإنني أحس لسعة برد خفيف.
Неизвестная страница