فقلت مبادرا: هذا لأن السنوات مرت بي كأنها قطار سريع وأنا واقف إلى جانب أنظر إليها من بعيد.
فقال هادئا: يذكرني قولك هذا بالصور التي كنت ترسمها في موضوعات إنشائك. لم لا تكثر من الكتابة فقد قرأت لك شعرا في الثقافة ومقالات في النبراس.
فأجبته في فتور: لست أدري. عشت هذه السنين لا أفكر في شيء سوى أن أطفو على سطح التيار وأتجه معه حيث يريد أن يحملني. لم أفكر في شيء ولم أرغب في شيء وأكاد أكون ذاهلا عن نفسي. قضيت هذه السنوات السبع وأنا غير شاعر بأن لي شيئا أعيش من أجله، والآن فقط وأنا آت إليك بدأت أشعر بأني كنت أحيا ذاهلا. كنت آتيا إليك من الطريق الذي يمر بالمقابر فعرجت على قبر أبي لأزوره. أتصدق أني لم أذهب لزيارته مرة كل هذه السنوات؟ كنت مثل قشة تطفو على الماء ويدفعها التيار هنا أو هناك وهي لا تريد لنفسها شيئا، ولكني عندما وقفت عند قبر أبي خيل إلي أن روحه تستقبلني وتحدثني، وتقول لي: «إن الحياة تناديك يا ولدي.» ولأول مرة بدأت أفكر وأنا في طريقي إليك وأسأل نفسي ما ذلك الذي تناديني الحياة من أجله؟
وكان صاحبي يستمع إلي في اهتمام وعطف وقال: سل نفسك يا صديقي عن الغاية التي تريدها أنت من الحياة هذه هي الحياة التي تناديك.
وشعرت بالرهبة تغمرني وأنا أحاول أن أجد له جوابا، ولكنه استمر قائلا: أظنك مغاليا يا سيد عندما تقول إن الزمن قد مر بك كالقطار وأنت واقف إلى جانب، وما الزمن؟ إنه خرافة.
فقلت مسرورا: هذا ما كنت أقوله لنفسي.
إنه من صنع عقولنا نحن أليس كذلك ؟
فقال موافقا: لا شك في هذا، ولكنه مع هذا يمثل حقيقة يا صديقي. هو يمثل الحركة التي فينا والحركة التي حولنا. الحركة هي الحقيقة الوحيدة التي تعنينا، ولا عبرة بما نسميه الزمن إلا بمقدار ما يكون فيه من الحركة. السكون والجمود لا يكون إلا للأموات. بل إن الأموات نفسها تتحرك والجمادات تتحرك لأنها تتغير وتتحول من حالة إلى أخرى. لم تكن أنت ساكنا ولا جامدا في هذا السنوات ولا يمكن أن تكون جامدا؛ لأنك كنت تنمو وتجرب، سواء فطنت إلى ذلك أو لم تفطن. قد نشعر بالقلق لأننا لم نحقق لأنفسنا غاية كنا نحب أن نتحقق، ولكن هذا معناه أننا نحس في أعماقنا بوجود غاية مبهمة، وما شعورنا بالقلق إلا من أجل هذه الغاية المبهمة، وهذا الحديث الذي خيل إليك أنك سمعته وأنت واقف إلى جوار قبر أبيك ما هو إلا حديث هذه الغاية المبهمة التي تحسها ولم تقدر بعد على تحديدها.
فقلت في تردد: أقول لك يا صديقي في صراحة أني خائب حائر لم أستطع ولا أظنني أستطيع أن أعرف أين أتجه.
فقال وهو ينحني إلى الأمام ويتكئ بذراعيه على ركبتيه في اهتمام: ألا يمكن أن يكون هذا من صنعك أنت؟ دعني أحدثك في صراحة، يخيل إلي أنك آسف؛ لأنك لم تستمر في الدراسة؛ ولهذا تقول إن السنوات مرت بك كالقطار السريع من بعيد، ولكنا لا يمكن أن نكون نسخا مكررة من صورة واحدة. لكل منا صورة ممكنة يستطيع أن يحققها قد تكون مخالفة للصور الأخرى، وهذا لا يمنع من أن تكون مساوية لها أو خيرا منها. أنت تاجر وأنا معلم وغيرنا طبيب أو عامل أو فلاح، وكل منا يستطيع أن يكون مثل الآخرين أو خيرا منهم إذا حقق صورته كاملة.
Неизвестная страница