الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Неизвестная страница
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
Неизвестная страница
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
Неизвестная страница
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
Неизвестная страница
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
Неизвестная страница
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الواحد والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
Неизвестная страница
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الواحد والثلاثون
الفصل الثاني والثلاثون
الفصل الثالث والثلاثون
أنا الشعب
أنا الشعب
تأليف
محمد فريد أبو حديد
Неизвестная страница
الفصل الأول
حياتنا سلسلة من حوادث صغيرة ليس لواحدة منها في ذاتها ما يسترعي انتباهنا في اللحظة التي تمر بها، ولكنا إذا بعدنا في الطريق، وأصبح من المحال أن نعود أدراجنا تبين لنا أن بعضها هو الذي يقرر مصائرنا، ولو كنا نفطن إلى هذه الحوادث الصغيرة الخطيرة في اللحظة الحاسمة لحرصنا على توخي الحكمة وتجنب الأخطاء، ولكنا بشر نكتب بأخطائنا سلسلة القصة البشرية، والحوادث التي تمر بنا تخلف فينا آثارا لا تمحى، بعضها حائل يسنح لنا في ذكريات عابرة، وبعضها عميق يشبه ندوب الجراح بعد التئامها، وهذه الخطوط العميقة هي التي توجه تفكيرنا وتقود مشاعرنا وتحرك إرادتنا. هذا ما بدا لي على الأقل وأنا في غرفتي الصغيرة من سجن الاستئناف أجول بخيالي في عالم الذكرى لأسجل ما أظنه جديرا بالذكر من حوادث حياتي.
لم تكن طفولتي متميزة بشيء يستحق أن أقف عنده طويلا حتى وقع الحادث الأول الذي زلزل وجودي وغير اتجاه حياتي وهو وفاة والدي.
كنت عند ذلك في نحو السابعة عشرة من عمري، وكنت أستعد لامتحان شهادة الثقافة العامة، ووقعت الصدمة علي فجأة، فشعرت كأني أهوي في فراغ لا قرار له. كان أبي والدا وصديقا يملأ كل حياتي، وما كان يخطر لي أنه إنسان زائل قد ينتزع من الوجود في لحظة، فلما عدت من المدرسة ذات يوم ووجدته مسجى في سريره والجميع يبكون من حوله، وقفت أنظر إليه بغير أن أرى وجهه المغطى، وأخذت أتأمل الوجوه الحزينة التي حوله وأنا ذاهل، فما راعني إلا أن الجميع ازدادوا صراخا وعويلا عندما رأوني، فاندفعت نحوه لأرفع عنه الغطاء وأناديه لأوقظه، فبادر من هناك إلي ودفعوني وأخرجوني من الغرفة قسرا. لم تكن في عيني دموع، بل كان قلبي يفيض غيظا؛ لأنهم حالوا بيني وبين أبي، ولم يحاول أحد منهم أن يتمسك به، بل سلموا بأنه قد مات وانتهى بغير مجادلة. ثم رأيته بعد حين يحمل في نعشه ويتجهون به إلى المقبرة كالأموات جميعا، وسرت مع السائرين حتى وقفنا إلى جانب حفرة، ورأيت جثمانه يدلى فيها وكل من هناك جامد في مكانه يبكي بغير أن يحاول أن يتمسك به، فاندفعت كالمجنون وأردت أن أتعلق به، ولكن الناس اجتمعوا حولي وأمسكوا بي قسرا، وجعلوا يواسونني بكلام لم أفهم معناه، فانفجرت باكيا كما لم أبك يوما في حياتي، ولما عدنا آخر الأمر إلى البيت وحدنا شعرت بحزن لا يشبه الحزن، وبلوعة لا تشبه لوعة الصبي في فقد أبيه، بل هي أقرب إلى حسرة المقهور العاجز أمام قوة جبارة تتقاذف به في قسوة، وكانت صورة أبي تتمثل لي لا تفارقني في ساعات اليقظة ولا في مناظر الأحلام، واعتراني شعور يشبه الحقد والعداوة لكل ما يذكرني بفقده؛ ولهذا لم أذهب مرة لزيارة قبره، بل لقد كنت أتحاشى الاقتراب منه أو السير في الطريق المؤدية إليه.
وامتلأ قلبي بوحشة شديدة، فخيل إلي أن الحياة خالية خاوية ليس فيها ظل من فوقي ولا قرار من تحتي، وحببت إلي العزلة ونفرت من كل مجلس حتى لقد لزمت غرفتي في البيت كلما عدت من المدرسة، وكانت أمي تأتي أحيانا لتؤنسني فتجلس إلى جنبي وترقبني في عطف حزين، فلا يزيدني ذلك إلا وحشة وأحس أن الحياة رهيبة.
وشيئا بعد شيء بدأت أضيق بالجو الرهيب الذي خيم علي، فصرت أخرج وحدي إلى الحقول القريبة من البيت أجول فيها بغير قصد سوى السير في الهواء الطلق، ويدور ذهني حول نفسه في أثناء سيري في أفكار غامضة يشوبها حزن غامض، حتى إن الحقول نفسها كانت تبدو في عيني في إطار كئيب مع أنها كانت تتبرج في حلة الربيع، وكنت أحيانا أجلس في مكان منعزل، فأكتب شيئا يشبه الشعر أنفس به عن أفكاري الحزينة الغامضة، فإذا قرأت ما كتبت بادرت بتمزيقه؛ إذ كان يزيدني كآبة لأنه يدور حول معنى واحد؛ معنى زوال الحياة التي تحملنا برغمنا وتقذف بنا حيث تشاء، وكانت أسئلة واحدة تتخلل كل ما أكتب: لم جئت إلى هذه الحياة؟ ولم أبقى فيها؟ وأين نذهب إذا خرجنا منها؟ وما هو قصدها؟ وماذا يستحق فيها أن أجعله غايتي؟ ومما زادني شعورا بالرهبة أني بدأت أرى أمي تعاني في حياتنا ضيقا تحاول أن تخفيه، ولكنه كان يظهر واضحا في كل ما حولنا. صارت لا تعطيني النقود التي تعودت أن أنفقها في «الشبرقة» مع رفاقي بالمدرسة، حتى صرت لا أقدر على مجاراتهم، ولا تشتري لي ولا لأختي الصغيرة ما تعودنا انتظاره من الهدايا الصغيرة، ولما جاء العيد لم تشتر لنا الملابس الجديدة، وشعرت بالذلة عندما رأيت كل زملائي ينظرون إلى بدلتي التي يعرفونها، وأذكر أني ذهبت إلى أمي يوما فسألتها: ماذا تقولين يا أمي في أن أشتغل بعمل أتكسب منه؟
فقالت في دهشة: أي عمل يا سيد؟
فقلت: أي عمل أقدر عليه، كما يعمل أولاد حارتنا.
فقالت: تحب أن تكون مثل حمادة الأصفر مثلا؟
وكان حمادة الأصفر ولدا من صبيان الحارة يعمل مع أبيه البقال في دكانه.
Неизвестная страница
فقلت: ولم لا؟ أما يكسب حمادة شيئا؟
ففزعت أمي لذلك السؤال ولامتني لوما شديدا في سخرية مرة وقالت: أهذا هو أملي فيك؟ لم لا تنظر إلى أبناء أعمامك وأخوالك؟ فهل فيهم من يشبه حمادة؟
ولم أفهم قولها فقلت لها: وماذا أعمل إذن؟
فقالت: تأخذ الشهادة العليا وتكون رجلا محترما.
وكنت عند ذلك في السنة الرابعة الثانوية، ففكرت في نفسي كم سنة يجب علي أن أبقى في المدارس حتى آخذ تلك الشهادة العليا، وبدت لي مرحلة طويلة شاقة لا طاقة لي بها، وانصرفت عنها ضائقا حائرا، وبدأت تستولي علي حالة من الفتور جعلتني أنصرف عن التفكير في المستقبل وعن كل رغبة في الاتجاه إلى غاية، وزادني ضيقا على ضيق أنني باعدت أصدقائي، وبدأت أحس أنهم جميعا ينظرون إلي من بعيد بنظرات فاحصة، ويتهامسون علي بهمسات خافتة، وصرت أرقبهم كذلك من بعيد وأنا معتزل عنهم وأترجم أقوالهم وإشاراتهم على أنها سخرية، وأنني أنا المقصود بها، وبدأت أتعمد مخالفة آرائهم إذا دارت مناقشة في أثناء الدرس، لا أقصد سوى أن أظهر مخالفتي لهم واستعلائي عليهم، وبعد بضعة أشهر من هذه العزلة الصارمة لم أطق وحدتي فاتجهت إلى خلق صداقات جديدة مع زملاء آخرين كنت من قبل لا أرضى أن أصاحبهم، فكنت أتعمد اختيار من هم مثلي أو أقل مني في مظهرهم، وبدأت أتزعم حركة التمرد في الفصل حتى أصبحت موضع الشكوى والعقوبة، وما زلت أتمادى في ذلك حتى أصبحت قبل آخر العام زعيم حركات الاضطراب في المدرسة، وكان يلذ لي أن أتحين كل فرصة لأظهر مقدرتي على إحداث الفوضى، ولست أدري مع هذا كله كيف نجحت في امتحان الثقافة العامة آخر العام، وزادت دهشتي عندما عرفت أني لم أكن من المتخلفين في النجاح، بل كدت أكون بين السابقين في المدرسة.
ولكن ذلك النجاح لم يعد إلى صدري الانشراح، بل سألت نفسي وما فائدة هذا؟ وإلى متى أستمر في هذه الدراسة الطويلة؟
وجاءت أيام العطلة فزادت حالي سوءا؛ لأني اتخذت بعض رفاق من أبناء الحارة وهم من صبيان العمال أو أبناء صغار التجار، وكانوا خليطا عجيبا من طباع مختلفة لا يجمع بينهم شيء سوى اللعب والمزاح الخشن والمشاجرات العنيفة.
وقد وجدت في صحبة هؤلاء الزملاء فرصا كثيرة للمصادمات كي أظهر امتيازي، وكانت جولاتي معهم تنتهي في كثير من الأحيان بمعركة أصيب فيها غيري أحيانا بجراح أو كدمات، كما كنت أعود منها إلى منزلي أحيانا بثياب ممزقة، وخدوش كثيرة، وكنت في أول الأمر أتسلل إلى غرفتي عند عودتي إلى البيت حتى لا أتعرض للوم أمي، ولكني بعد أن تعرضت للومها مرة بعد مرة صرت لا أرهب شيئا ولا أبالي لوما، وما أزال إلى الآن أشعر بالخجل كلما تذكرت كيف كنت أقف أمام أمي عند ذلك وأجادلها وأراجعها وأتحداها بغير تجمل.
وكان من بين صبيان الحارة اثنان استمرت صلتي بهما مدة طويلة فيما بعد؛ ولهذا أرى أنهما جديران بأن أذكرهما، وأولهما «حمادة الأصفر» الذي ذكرته لي أمي على سبيل اللوم عندما أفضيت إليها برغبتي في العمل.
كان حمادة فتى ضئيل الجسم أصفر اللون يعرفه صبيان الحارة جميعا بالمكر والخبث، ولكنهم مع هذا يعجبون بمهارته في اختراع الألاعيب وتدبير المكائد، وكان يمتاز بجرأة عظيمة في الكلام، وله أسلوب فكه ساخر لاذع، ولكنه لضعف جسمه لا يحب المصادمة، وكانت له مقدرة على التفنن في الصفير العالي بأن يضع إصبعيه في فمه وينفخ فيخرج أصواتا يتحكم فيها كما يشاء، فيقلد صوت القاطرة البخارية أو العصافير، أو يقطع الصفير في مقاطع تجعله يشبه النطق إذا أراد أن يدعونا من منازلنا بأسمائنا، وكان هو زعيم الصبيان في الحارة قبل أن أدخل في زمرتهم، فلما اتصلت بهم شعرت أنه غير مرتاح إلى وجودي معهم منذ أول يوم؛ لأنه وجدني غير مستعد لقبول زعامته.
Неизвестная страница
ولم تمض سوى بضعة أسابيع على وجودي مع الزمرة حتى وجدت الجميع يقاطعونني ويباعدونني، فاعتزلتهم ولمت نفسي لوما شديدا على انحداري إلى مصاحبتهم، واقتصرت على الخروج وحدي إلى الحقول القريبة لأتنزه وأكتب بعض خواطري، ولكن الزمرة لم تدعني وحدي في سلام، بل أخذ أفرادها يتعرضون لي في ذهابي وإيابي، ويقذفون بعض ألفاظ التعريض نحوي من بعيد، فكنت أتجاهل أمرهم لأظهر مقدار هوانهم عندي.
وكان من بينهم ولد من أبناء التجار اسمه «حمادة البارودي» وهو قزم قصير ذو رأسين، ولكن لسانه كان طويلا فصيحا، وله مقدرة كبيرة على السخرية اللاذعة، فكان كلما رآني قذفني بألفاظه الساخرة، المضحكة، وما يزال كذلك حتى أغيب عن بصره وأنا أسمع ضحكاته وضحكات أصحابه فأتقد غيظا، ولما رأت الزمرة أني لا أعيرهم التفاتا زادوا جرأة علي، وأخذوا يسيرون ورائي ليطيلوا مدة اضطهادهم إياي، وكانوا يرسلون أمامهم حمادة البارودي ليكون طليعة، ويسيرون من خلفه صفا يصفقون ويضحكون، وحمادة الأصفر يصفر لهم صفيرا مختلف النغمات والنبرات، ولما زاد غيظي من ذلك عزمت على أن أواجههم في موقعة حاسمة، فما كادت الزمرة تسير من خلفي كعادتها ذات يوم، وما كاد حمادة البارودي يسير في طليعتها ويصيح بأول كلمة ساخرة، حتى عدت أدراجي حانقا وخاطبت القزم قائلا: أتقصدني بما تقول؟
فارتد حمادة البارودي إلى الوراء صامتا ونظر إلى ورائه، ولكني لم أدع له فرصة لكلمة أخرى، وأمسكت ذراعه فهززتها في عنف قائلا: أتريد أن تكون عدوي؟
فلما رأى أن أصحابه لا يسرعون لنجدته أجاب قائلا: أنا مصالحك!
ثم انحاز إلى جنب ووقف ينظر ماذا أفعل، واندفعت مسرعا نحو الجماعة المنتظرة.
وقصدت عامدا إلى زعيمهم حمادة الأصفر فلم أخاطبه بكلمة، بل لكمته في صدغه لكمة شديدة جعلته يترنح ويضع يده على وجهه صارخا، فعاجلته بلكمة أخرى سقط منها على الأرض يصرخ ويبكي ويشتمني، فجذبته من يده حتى أوقفته أمامي كأنه طفل مذنب، وأخذت أشتمه وأهدده، وفي لحظة قصيرة انقلب أفراد الزمرة من عداوة متحمسة إلى صداقة متحمسة، وأخذوا يصفقون لي، وجاء حمادة البارودي يشارك في الملهاة الجديدة، فأخذ يصيح بطريقته الساخرة المضحكة: ما لك يا حمادة يا أصفر! حرام عليك يا سيد. تاب والله العظيم! جدع يا سيد. هيه يا حمادة!
وكان الجميع يضحكون ويصفقون، وكان خذلان حمادة الأصفر حاسما، فعزل نفسه عن زعامته من ذلك اليوم وتركني زعيما للزمرة وحدي، ولم يظهر بعد ذلك بيننا عدة أسابيع، ثم عاد إلينا خاضعا مسالما.
وأما الصبي الثاني فهو «مصطفى عجوة»، وكان هو المهرج المضحك بعد اعتزال حمادة الأصفر. كان ولدا ضخم الجسم، له وجه غليظ أحمر قاتم، وفيه آثار من الجدري تبدو من بعيد كأنها زرقاء، وتعلو وجهه دائما لمعة كأنه مدهون بزيت، وكان له صوت مجوف غليظ، وينطق بألفاظه في بطء فيثير الضحكات عند كل كلمة، وكان يجمع بين السذاجة التي تقرب من البلاهة وبين الميل إلى الدس والنميمة، وله مقدرة عظيمة على اختراع الأكاذيب التي يسعى بها بين رفاقه، فإذا عرف زملاؤه حقيقة أكاذيبه لم يخجل ولم ينكر، بل ينطق ببعض ألفاظه البلهاء ثم يضحك ضحكة طويلة، ويتحمل ما يوجه إليه من الشتائم، وكان يغيظني كثيرا ببلادته وخبثه، ولكني لم أجد عليه سبيلا لأنه لم يحاول مرة من المرات أن يتحدى أو يقاوم عندما كنت أقتص منه على أكاذيبه.
وهو يتيم الأبوين، يقيم مع جدته العجوز ويعولها بما يكتسب من عمله في محلج السيد أحمد جلال تاجر الأقطان، الذي كان من قبل من سكان الحارة، وهو دائما يباهي بأن السيد أحمد يعرف جدته عندما كان يقيم في حارتنا، كما يباهي بأنه يأخذ ستة جنيهات مرتبا شهريا.
وقد حدث في يوم من الأيام أن ذهبنا إلى مولد سيدي «عطية أبو الريش»، وأخذنا نلعب الكرة في ساحة قريبة من مكان المولد، واجتمع من حولنا عدد كبير من النظارة، وقد أحسنت في اللعب في ذلك اليوم، وكنت اللاعب الأوسط في الهجوم، فأخذ النظارة يهتفون باسمي حتى داخلني زهو كبير، وجاءت فترة الراحة بين دوري اللعب فذهبت لأشرب كوبا من الخروب، ومررت في طريقي بحلقة كانت تحيط بمصطفى عجوة وتضحك منه، وسمعت صوته الأجوف ينطق باسمي في عبارة تهكم انفجرت على أثرها ضحكة عالية، فشعرت بحنق شديد عقب الزهو الذي امتلأت به في أثناء اللعب، واندفعت نحو مصطفى عجوة بغير تفكير فأهويت على وجهه السمين بكل قوتي بصفعة رنت عاليا، ثم أتبعت ذلك ببضع شتائم شديدة.
Неизвестная страница
ولم يحاول مصطفى أن يرد على الاعتداء بمثله، مع أنه كان في مثل طولي، وأضخم مني جسما، بل رفع ذراعه إلى رأسه ليحمي وجهه، وأخذ يصيح قائلا: «شاهدين يا جماعة؟»
وتعالت الأصوات مختلطة، وتقدم أفراد كثيرون ليحجزوني عنه وشهدوا علي بالاعتداء، وألزموني أن أسقيهم جميعا كئوسا من شراب الخروب ففعلت.
هكذا انحدرت مع هذه الزمرة إلى حياة مضطربة مدة الصيف كله، وعزفت نفسي عن مواصلة الدراسة عندما بدأ العام الدراسي الجديد، وعزمت على الانقطاع لأبحث عن عمل أتكسب منه، وأعلنت لأمي في صراحة أنني لن أطيق الاستمرار في المدرسة، ولم أعبأ بالحزن الشديد الذي أصابها.
ولما رأت أمي أنني ركبت رأسي صرفت وجهها عني، ولزمت الصمت حتى صارت لا تخاطبني في شيء.
ولكن ذلك لم يزدني إلا عنادا، وعزمت فيما بيني وبين نفسي على أن أظهر لها أنني لست طفلا، وأنني أستطيع أن أثبت وجودي وأشق طريقي في الحياة، ولكني عندما بدأت أفكر في البحث عن عمل لم أجد أمامي بابا أستطيع أن أطرقه، لأني كنت قليل الخبرة لا أكاد أعرف عن الوظائف شيئا، وكان أول ما خطر لي أن أشتغل بالتحرير في الصحف؛ وذلك لأني كنت في المدرسة عضوا في لجنة المجلة، وكان التلاميذ والمدرسون يسمونني «الكاتب الصغير»، ويطلبون مني أن أقرأ عليهم القطع التي أكتبها ويظهرون الإعجاب بها، وخيل إلي أنني إذا أرسلت مقالا من إنشائي إلى إحدى الصحف لم ألبث أن أتلقى الرد محتويا على بضعة جنيهات أذهب بها إلى أمي لأقول لها: «انظري كيف أكسب!» وقضيت بضع ليال في الكتابة حتى أتممت بضع مقالات وكتبتها بخط حسن في ورق جيد، وبعثت بها إلى الصحف المعروفة، ولم أنس أن أبعث بإحداها إلى جريدة «النبراس» في دمنهور.
ولا حاجة بي إلى أن أقول: إن انتظاري قد طال عبثا ولم أجن من وراء مقالاتي إلا خسارة أثمان الصحف التي كنت أشتريها كل يوم أو كل أسبوع لأرى هل نشرت شيئا من كتابتي. هذا فوق ما خسرته في ثمن الورق والظروف وأثمان طوابع البريد وزجاجة من الحبر الممتاز.
وكدت يوما أطير فرحا عندما قرأت مقالة باسمي في جريدة «النبراس»، ولكني لم أتلق الخطاب المنتظر الذي يحتوي على الجنيهات.
ولما يئست من التكسب بالتحرير في الصحف فكرت في الاشتغال بالأعمال الكتابية في الوظائف الحكومية، فبعثت إلى مصالح كثيرة أعرض عليها استعدادي للعمل، وكلفني هذا أيضا ما يزيد على خمسين قرشا في أثمان الورق وطوابع التمغة وطوابع البريد، وانتظرت أسبوعا بعد أسبوع متلهفا على الردود، ولكن لم يصل إلي رد منها.
وبدأت أحس بالضيق من البطالة فوق إحساسي بالخجل والخيبة؛ لأني لم أثبت وجودي، ومر الخريف والشتاء وبدأ الهم يثقل على صدري، فكنت أخرج إلى الريف المجاور للمدينة لأفرج عن نفسي بالنزهة بين الحقول في مطالع الربيع، وكان جمال منظر حقول القمح وهي تختلف من الخضرة إلى الصفرة يأخذ بمجامع قلبي، فأجلس بينها وأكتب ما يخطر لي من الأفكار، أو أؤلف ما يجيش في صدري من الأشعار، وكان أكثر ذلك تعبيرا عما كان يجثم على قلبي من الضيق والحيرة.
ورأيت في يوم من الأيام إعلانا عن وظيفة بمجلس المديرية فكدت أطير فرحا، وخيل إلي أن الأقدار قد ساقت إلي تلك الوظيفة عمدا واختارتها في دمنهور من أجلي، وكتبت طلبا تأنقت في إنشائه وجودت خطه، وذهبت لأقدمه إلى رئيس المكتب بنفسي حتى لا أضيع يوما في إرساله بالبريد، ولما ذهبت إلى ديوان المجلس أخذت أسأل عن رئيس المكتب، فدلني أحد الحجاب على حجرته وهو يبتسم، فاستبشرت بالخير ودخلت إلى الغرفة، وكان فيها ثلاثة يجلس أحدهم في الصدر خالعا طربوشه ويأكل من طبق أمامه فيه بقية من الفول المدمس، فعرفت أنه الرئيس وتقدمت نحوه مترفقا وقلت: حضرتكم الرئيس؟
Неизвестная страница
فنظر إلى نظرة فاترة وهو يمضع ثم قال: ماذا تريد؟
فمددت يدي إليه بالورقة، ولكن يده كانت ملوثة بالزيت ، فتردد لحظة ثم مد إصبعي يده اليسرى وأخذها مني فنظر فيها لحظة ثم قال: هذا خطك؟
فقلت مسرورا: نعم.
فوضع الورقة إلى جانب وأخذ لقمة كبيرة اشتملت على بقية ما في الطبق ثم فرك يديه وسألني من بين أضراسه: شهادة الثقافة؟
فأجبت في شيء من الزهو: نعم.
فقال: وأين هي؟ وما أدراني أن هذا صحيح؟
فقلت: أحضر لك إقرارا من المدرسة بأني ناجح في الثقافة وأتعهد بإحضار الشهادة عند استلامها.
فتبسم قائلا: حسن جدا، أين القهوة يا قرني؟
ووجه الكلمة الأخيرة إلى الحاجب الذي كان واقفا ورائي وهو الذي دلني على الغرفة. ثم اتجه إلي قائلا: طيب! تفضل الآن.
وكنت أود أن أسأله عن رأيه، وهل هناك أمل في قبول طلبي، ومتى أعود إليه مرة أخرى، وما هي الوظيفة، وما أجرها؟ ولكنه نظر إلي نظرة فاحصة كأنه يقول لي: «انصرف من هنا.»
Неизвестная страница
فانصرفت صامتا حتى لا أغضبه وخرجت من الباب فوقفت لحظة مترددا، وجاء الحاجب قرني فوضع يده على ذراعي قائلا في همسة: اسمع يا أفندي!
واستمر بعد أن نظرت إليه: تعال هنا غدا وأنا أساعدك. أنا ضامن لك الوظيفة إذا سمعت نصيحتي.
وكان رجلا سمينا تلوح عليه الطيبة فقلت له: أشكرك جدا.
فقال: لا شكر على واجب. أنت شاب طيب ويظهر أنك نبيه. المنافع متبادلة يا ابني، أنفعك وتنفعني. أأنت من دمنهور؟
فقلت: نعم.
فقال: وأنا مستعد لأي خدمة، في الحقيقة لا أريد أن أطلب شيئا لنفسي، ولا غرض لي إلا تمهيد السبيل لك. أتفهمني؟ أنا أقدر أن أجعله يقبل. أنا وحدي.
ورفع يده ففرق أصابعه الخمسة تحت عيني في السر وهمس قائلا: خمسة فقط، والباقي بعد القبض.
فهززت رأسي مستفهما.
فقال: خمسة جنيهات!
فسقط قلبي في صدري. خمسة جنيهات والباقي بعد القبض؟ وأين لي خمسة جنيهات؟ أأذهب إلى أمي لأطلب إليها ذلك المبلغ؟
Неизвестная страница
فقلت له: ماذا تقصد؟
فنظر إلي كأنه يشتمني وارتسمت على وجهه ابتسامة خاوية، ثم رفع رأسه فجأة متطلعا إلى أقصى الممر المجاور للغرفة، وصاح ينادي عامل القهوة: أين فنجان القهوة المضبوطة يا زفت!
وصاح العامل: حالا يا عم قرني!
ووقفت ثابتا كالأبله لا أدري ماذا أصنع.
فالتفت الحاجب نحوي قائلا: أنت حر!
وتركني ليأخذ القهوة من الصبي الذي جاء مسرعا بها، فسرت أجر قدمي في الطريق كالمذهول، حتى وصلت إلى جانب الترعة، وكان مس الهواء يلطف حرارة وجهي المتقد، وما زلت أسير حتى عدت إلى بيتي متعبا بعد دورة طويلة حول المدينة.
وبعد نهار قلق وليلة مضطربة قمت في الصباح الباكر ذاهبا إلى ديوان مجلس المديرية عازما على مقابلة السيد رئيس الكتبة، لعله يكون أرفق من الأمس، ولكني ما كدت أقترب من الباب حتى استوقفني عم قرني قائلا: ممنوع يا أفندي!
ونظر إلي نظرة جامدة كأنه لم يرني من قبل.
فوقفت لحظة أنظر إليه، وكدت أقول له كلمة أسترضيه بها، وحدثت نفسي أن أعده بما يرضيه إذا قبضت المرتب، ولكنه لم يعطني فرصة للكلام بل أعاد كلمته قائلا: قلت لك ممنوع يا أفندي!
واقترب مني كأنه يريد أن يدفعني عن الباب.
Неизвестная страница
فشعرت بصدري يزدحم بالغيظ، وتمنيت لو دفعني لأجد سببا يجعلني أفرغ فيه حنقي بلكمة في صدغه، ولكنه أدار لي ظهره وأمسك بأكرة الباب.
فلم أجد لي سبيلا إلا أن أبلع غيظي وأنصرف وفي قلبي بركان يفور.
وزاد ضيقي بالحياة وبدأت أسأل نفسي عن قيمتها وتفاهتها، وزادني ضيقا أنني بدأت أندم على انقطاعي عن الدراسة وإغضاب أمي، وبلغ بي الحنق على نفسي وغيري أن انقطعت عن الناس كافة، وصرت أقضي أكثر أوقاتي هائما في الحقول مثل طفل ضال، لا أجد شيئا أفرج به عن نفسي إلا أن أكتب قطعا حانقة باكية من النثر أو الشعر ثم أمزقها بعد أن أقرأها.
وكنت أحيانا أرى في الطريق بعض زملائي القدامى في المدرسة فتصيبني غصة، وألفت بصري عنهم حتى لا أحييهم أو أكلمهم، شاعرا نحوهم بشيء يشبه البغض أو الحقد، فإذا عدت إلى بيتي تسللت إلى غرفتي لأقضي أكثر الليل ساهدا مع خواطري السوداء.
هكذا مرت بي الأيام بطيئة كئيبة حتى جاء الصيف وامتحن رفاقي في البكالوريا، فانهارت مكابرتي وصرت أبكي في غرفتي كلما خلوت فيها.
وجاءني حمادة الأصفر ذات ليلة من الليالي الحارة، وكنت لم أره منذ أشهر طويلة، فتعجبت من زيارته، ولكني شعرت بشيء يشبه الابتهاج بها لأنها أدخلت علي شيئا من التغيير، وكان وجهه أصفر كعادته، وظهرت النقط السود التي فوقه كأنها نمل صغير يتحرك، وابتسم لي عن أسنانه الصفر «المشرشرة» كأنه لم يكن بيننا ما يعكر الصفاء من قبل.
وقال لي مبادرا: ما رأيك يا سي سيد؟
وكان واقفا على أرض الحارة وكنت فوق عتبة الباب، فظهر لي كأنه طفل ضئيل الجسم، وأحسست نحوه لونا من العطف ممزوجا بالاحتقار وقلت له: ماذا تريد يا حمادة؟
فقال: ما رأيك في فرقة تمثيل؟
فصحت: ماذا؟
Неизвестная страница
فقال مبتسما: فرقة تمثيل، فرقة أصدقاء الفن. ألا تذكر؟
وكانت فرقة من الممثلين قد زارت دمنهور في مولد «أبو الريش»، وذهبت إليها مع زمرة أصحابي، ولا أنسى تلك الليلة التي بكيت فيها بكاء مرا عندما شاهدت رواية «عواطف البنين»، وكان مصطفى عجوة جالسا بجانبي، فأخذ يضحك مني ويدفعني بيده قائلا: «إنه تمثيل يا عبيط!» ووقف حمادة ينتظر جوابي وأنا أنظر إليه في عجب ولا أدري ماذا يقصد.
فعاد قائلا: أنت تعرف أني اشتركت مع هذه الفرقة، وكان الجمهور يصفق لي كلما ظهرت. لماذا لا نكسب كما كانت تلك الفرقة تكسب؟ ولماذا لا نكون نحن «أصدقاء الفن»؟ ثلاثين جنيها نربحها في الليلة الواحدة. لا تفكر في شيء لأني ضامن لك أنت عشرين جنيها. ستكون أنت رئيس الفرقة يا سيد أفندي وسأكون أنا أمين الصندوق فقط. سأذهب إلى هؤلاء الأغنياء لأبيع لهم التذاكر بنفسي، وإذا رفض أحدهم أن يشتري عرفت كيف أخلص منه، لا تفكر أنت في شيء. الفرقة كاملة. لا تنتظر إلا أن تقبل أنت الرياسة، فما رأيك؟
وكدت أضحك من الفكرة ولكني قلت له: يعني أنك تريد أن أمثل معكم؟
فأجاب في جد: أنت رجل أديب يا سيد أفندي، كل الناس يقولون هذا. رأيت اسمك بعيني في النبراس، والأعيان كلهم يحسبون حسابك إذا عرفوا أنك معنا. كلمة واحدة في جريدة النبراس تقلب البلد على رأس أكبر عظيم هنا. عشرين جنيها يا سيد أفندي تقبضها مقدما. ما رأيك؟
ومع كل ما كان في نفسي من السخرية ومن سوء الظن بهذا الصاحب القديم، وجدت نفسي أفكر في الجنيهات العشرين، وتصورت نفسي وأنا أحمل هذا المبلغ الضخم إلى أمي قائلا لها: «انظري كيف أستطيع أن أكتسب بعملي!»
وسألته: أأنت جاد فيما تقول؟
فقال مؤكدا: جاد؟ وهل جئت لأمزح؟ لا تفكر في شيء واترك لي تدبير الأمر كله. الرواية حاضرة، والملابس كاملة، والمناظر مجهزة. رواية عظيمة، وملابس بالقصب، والضحك لا ينقطع.
وشادر البطيخ يتسع لألف شخص. ألف في عشرين قرشا على الأقل، كم يا سيد أفندي؟
فقلت ساخرا: مائتان.
Неизвестная страница
فقال جادا: بالضبط، والمقاعد الأمامية بثلاثين قرشا، وكل المقاعد بالثمن. لا هدايا ولا مجانا ولا مجاملة. الجد جد. الاجتماع غدا في الساعة العاشرة صباحا في وابور الطحين بجوار ضريح سيدي «أبو طاقية» ما رأيك؟ أنصار الفن أو المسرح الوطني؟
ففكرت قليلا ثم قلت: المسرح الوطني.
فصفق قائلا: أديب عظيم والله! المسرح الوطني يا أستاذ سيد. انتهينا!
ولم أجبه بكلمة لأن ذهني كان مشغولا بأسئلة كثيرة عن حقيقة الجنيهات العشرين فهل يدفعها لي مقدما كما يقول؟ ولكني خجلت من سؤاله حتى لا أظهر لهفتي، وجعلت أفكر في إمكان بيع التذاكر كلها.
ولما رأى حمادة أني صامت قال لي: قلت لك لا تفكر. رواية مدهشة. كلام نهائي؟ في الساعة العاشرة صباحا؟
وتركني بعد أن هز يدي في صفاء ومودة، وعدت إلى غرفتي مستبشرا أعيد ما سمعت من حمادة حتى غلبني النوم وأنا أناجي أملي.
واجتمعنا في اليوم التالي في «وابور الطحين»، وكانت الفرقة هي الزمرة القديمة مع زيادة بعض أشخاص آخرين للقيام بالأدوار الثانوية، وقرأنا القصة فوجدناها مدهشة حقا. رجل من كبار الأغنياء يتزاحم الشبان على خطبة ابنته ويرفض أن يزوجها لأحد منهم، ثم يأتي إليه سمسمار يوهمه بأنه رسول من قبل أحد الأعيان في مدينة مجاورة لخطبة ابنته، وكان متآمرا مع وكيل الدائرة على تزويج الفتاة من رجل مفلس من أسرة معروفة طمعا في الحصول على ثروة والدها.
ثم تنكشف المؤامرة بعد كتابة العقد، فيغضب والد الفتاة ويريد التخلص من العقد، وبعد مراجعات كثيرة ومصادمات ومضاربات مضحكة يرضى الزوج المفلس بأن يفسخ العقد بعد أن يأخذ تعويضا ماليا كبيرا.
وتم الاتفاق بيننا على توزيع الأدوار، فكنت أنا سعادة البك، وحمادة الأصفر الشيخ منصور السمسار، ومصطفى عجوة وكيل الدائرة، وحمادة البارودي ابنة البك، وهكذا، ولم نختلف إلا على شيء واحد؛ وهو الطريقة التي يضرب بها وكيل الدائرة وجه سعادة البك ردا على الصفعة التي يوجهها إليه البك في أثناء المشادة التي تحتدم بينهما، ولما لم أرض أن يضربني مصطفى عجوة بحال من الأحوال، تم الاتفاق بيننا بعد أخذ ورد طويلين على أن يقنع مصطفى وكيل الدائرة بالتهجم على البك من بعيد.
وبعد بضعة أيام جاء حمادة الأصفر ليسألني هل حفظت دوري؟ وكنت أتقنت حفظه، وتمرنت عليه حتى رضيت عن نفسي، ودفع لي حمادة جنيهين مقدما عندما رفضت أن أشتغل إلا إذا نفذ الشرط المتفق عليه، ووعدني بأن يدفع الباقي في ليلة الحفلة.
Неизвестная страница
وجاءت الساعة الموعودة وبدأ الاحتفال في شادر البطيخ، ورأيت النظارة يملئون المقاعد عندما نظرت إليهم من ثقب الستارة، ولم أرد أن أعكر صفاء الحفلة بالإصرار على أخذ باقي العشرين جنيها؛ لأني شعرت بالاطمئنان إلى أن الربح سيكون كافيا الجميع.
وسارت الرواية سيرا حسنا، وكان إعجاب النظارة ظاهرا من تصفيقهم وصفيرهم وخبطهم بالأرجل على الأرض، وكان حمادة يذهب ويجيء من وراء المسرح وهو بادي السرور، وكلما جاء دوره ذهب ليؤديه أداء طبيعيا كسمسار خبيث حقا.
ثم جاء منظر مصطفى عجوة وكيل الدائرة بعد أن كشفت خيانته فجعلت أشتمه وأهدده وصفعته على وجهه صفعة شديدة كما يحتمه الموقف في الرواية بحسب الاتفاق، فما كان منه إلا أن أدى دوره الأصلي كما هو مكتوب في الرواية، ورفع يده الضخمة على غير انتظار مني وضربني على وجهي ضربة شديدة ترنحت من ثقلها، فما كان مني إلا أن هجمت عليه ولكمته على وجهه لكمات متعاقبة وأنا أشتمه وألعنه حتى وقع على الأرض، وبركت فوقه أكيل له اللكمات في غيظ والناس يضجون بالضحك والتصفيق والصفير، وأرخي الستار، واضطرب الشادر، وجاء حمادة يجري نحوي ويلطم وجهه قائلا: «ضعنا!»
ولم أهتم بقوله ولا بأقوال الزملاء الآخرين، وانصرفت ذاهبا إلى بيتي فأغلقت علي بابي وأخذت أبكي بكاء مرا، وكان شعوري بالخزي يخيل إلي أن أذهب إلى أمي لأوقظها من النوم وأقبل رأسها وأعتذر إليها وأسألها الصفح عني. ألم يكن كل ما أصابني نتيجة لغضبها؟
ولما طلع علي الصباح سارعت إليها وقبلت رأسها، وأخذت أعترف لها بسوء مسلكي وبكل ما حدث لي، وسألتها مخلصا أن تصفح عني وتدعو لي بالهداية، وشعرت عندما مسحت على رأسي بيدها وأخذت ترقيني أني ألوذ بالملجأ الوحيد الذي أستطيع أن ألجأ إليه دائما وأجد الأمن في ظلاله.
الفصل الثاني
كانت أمي تحاول أن تخفي تأثرها وأنا أحدثها عن محاولاتي في البحث عن العمل وما لقيته فيها من الخيبة، ولكن عينيها الرطبتين كانتا تدلان على مقدار رثائها.
وقلت لها في تردد: ولا بد لي من أن أعيد الكرة مرة أخرى؛ فالمدرسة أصبحت مستحيلة.
فقالت: لا أحب أن أعارضك يا سيد، ففكر في مستقبلك كما تحب.
فقلت: يمكنني أن أتقدم للامتحان من منزلي، المهم أن الوظائف تحتاج إلى الواسطة. كل شيء في هذه الأيام يحتاج إلى الواسطة.
Неизвестная страница
فقالت: أتذهب لعمك؟
ولم أكن أنتظر منها أن تفكر في هذا؛ لأني أعرف أن عمي كان على خلاف شديد مع أبي قبل وفاته، حتى إنه لم يحضر إلينا عند موته.
وقلت لأمي: لا أذهب إليه أبدا، وماذا لو تخلى عني؟ أظنك تعرفين السيد أحمد جلال.
قلت ذلك لأني تذكرت أن السيد أحمد جلال جارنا القديم كان كلما رآني يبدؤني بالسلام، وكان من أول من زارنا للتعزية، وكرر علي أن أزوره إذا احتجت إلى مساعدة.
فقالت أمي مرتاحة: جارنا القديم والله يا سيد، لا مانع أبدا. هو صاحب كلمة مسموعة والست نور الله يحميها، والله كان من الواجب أن أزورها من زمن.
واتفقنا على أن نقوم من ساعتنا إلى بيت السيد أحمد جلال، وكان قد انتقل من حارتنا منذ عشر سنوات إلى بيته الجديد في حي «أبو الريش».
وكان السيد أحمد جلال في مبدأ أمره تاجرا صغيرا، ثم اتسعت تجارته وأنشأ محلجا عظيما، وأصبح في مدة الحرب الأخيرة أكبر تاجر قطن في المدينة، وكان صديقا لأبي، وكثيرا ما كان أبي يبعثني إليه بخطاب لآخذ منه سلفة على القطن في مدة الصيف كما هي عادة الزراع.
وعندما كان يقيم في حارتنا كانت أمي تزاور امرأته السيدة نور، وكنت كثيرا ما أذهب معها، وكانت ابنته منى طفلة صغيرة ظريفة تشبه الدمية ذات الشعر الأصفر، فإذا ذهبت إلى هناك أسرعت تجري نحوي، وطلبت مني أن أركبها فوق كتفي كأني حصان، ثم تدلي رجليها من أمام صدري وتهزها فأجري بها مقلدا وثبات الخيل وأصهل كما يصهل الحصان فتضحك مكركرة، وتطلب أن أعيد الجري والصهيل مرة أخرى، وأذكر أني ذهبت مع أمي للزيارة مرة في يوم من أيام الشتاء وكانت أختي منيرة معنا، وكانت طفلة في مثل سن منى في حوالي الثالثة أو الرابعة، وركبت منى فوق كتفي كعادتها وطلبت مني أن أجري، وكانت الحارة زلقة على أثر مطرة ثقيلة فانزلقت بها ووقعنا معا في بركة من الطين، فبكت منى وأخذت منيرة تبكي هي الأخرى وهي واقفة على الرصيف، وتحملت وحدي في ذلك اليوم لوما شديدا من أمي؛ لأني تسببت وفي وقوع منى.
ومع أني أنا الذي اقترحت على أمي أن تذهب إلى السيد أحمد جلال، فإني شعرت بضيق شديد عندما نزلنا متجهين إلى منزله؛ لأني استصعبت أن أطلع ذلك الجار القديم على أني تلميذ خائب قطعت دراستي، ولم أجد عملا حتى لجأت إلى مساعدته ليجد لي وظيفة أتكسب منها.
ولكني تغلبت على نفسي وجاهدت شعور المرارة الذي غمرني، ولم أنطق بكلمة حتى وصلنا إلى البيت، وكان بناء فخما تحيط به حديقة يانعة واسعة، ودخلت أمي إلى الدار وذهبت أنا إلى جناح الضيوف، وكان من حسن حظي أن السيد كان هناك، فاستقبلني مرحبا، وأذهبت سماحته ما كان في نفسي من الانكسار، وطلب لي شرابا من المنجة، وأخذ يحدثني حديث جار قديم لا تكلف فيه، ولأول مرة بدأت أعرف الرجل؛ لأني كنت لا أراه قبل ذلك إلا من بعيد كما يرى الطفل رجلا، وشعرت بشيء كثير من الرضى عندما بدأ يحدثني كرجل.
Неизвестная страница
وكان حديثه سهلا شائقا يجري هنا وهناك في مواضيع شتى، فحدثني عن أبي وعن عمي الذي كان من قبل حكمدارا في دمنهور، كما حدثني عن نفسه عندما كان صغيرا فقيرا، وتعجبت من أنه لم يشعر بشيء من الأنفة عندما قال أنه بدأ حياته عاملا عند الحاح علي مطاوع تاجر الغلال، وأنه اقتصد من أجره بضعة جنيهات بدأ بها تجارة صغيرة، فاشترى بعض قناطير من القطن كان يجمعها من الفلاحين رطلين أو بضعة أرطال في كل صفقة، ثم حمل ما اشتراه على عربة نقل فكان يسير إلى جانبها حينا ويركب عليها حينا آخر حتى وصل إلى الإسكندرية، وباع ما اشتراه بربح كبير شجعه على الاستمرار في التجارة، ونظر إلي بعد ذلك قائلا: إذا شئت يا سيد أفندي أن تنجح في الحياة فلا تتعلق بالمظاهر. وارتحت عندما سمعته يناديني: «يا سيد أفندي».
وشجعني ذلك على أن أفاتحه بأني أريد أن أجد وظيفة في الحكومة. فأجابني قائلا: لماذا تريد أن تتوظف في الحكومة؟ إنها لا تعلم إلا الكسل والغرور.
فقلت له: أريد عملا أتكسب منه؛ لأني فقير.
ولم أشعر بالخجل أن أقول له إني فقير بعد أن سمعته يقول إنه كان في صغره فقيرا هو الآخر.
فتبسم قائلا: هذا حسن، وأنا في حاجة إلى شاب مثلك للعمل هنا، ولكن على شرط، ليس هنا مكاتب ولا سعاة ولا أجراس ولا أوامر. هنا عمل إذا كنت حقا تريد العمل. العمل من الصباح إلى المساء، والأعمال كلها سواء. ليس هنا عمل مهم وآخر تافه. كل شيء مهم كالآخر، كتابة النيشان على البالات مثل أمانة الخزانة، كلها تحتاج إلى الأمانة والدقة والجد.
وكانت طريقته في الكلام بسيطة، ولكنها حاسمة فقلت له: يسرني أن أعمل معك.
فتبسم ابتسامة لم أفهم معناها ولكنها تشبه قولي: سنرى.
وقال: سأنتظرك إذا شئت في الصباح. الساعة الثامنة تماما يبدأ العمل، وأنا هنا منذ الساعة السابعة والنصف.
فشكرته مخلصا وكان قلبي يخفق سرورا. هكذا وجدت العمل في لحظة ولم تعد بي حاجة إلى الوساطة للبحث عن وظيفة في الحكومة.
ولما استأذنت لأدعو أمي لننصرف دعاني السيد أحمد لأجول معه جولة في أنحاء الحديقة، وكانت منى تلعب هناك، فلما رأتني عرفتني من أول نظرة، ولكنها لم تجر نحوي ولم تطلب أن تركب فوق كتفي. كانت عند ذلك فتاة في نحو الحادية عشرة أو الثانية عشرة، واتجهت نحوي فسرت إليها لأحييها، وكان وجهها ما يزال وجه الطفلة التي تشبه الدمية، شعرها الأصفر وعيناها الزرقاوان وابتسامتها الوديعة والغمازتان اللتان في وجنتيها، وأخذها والدها تحت إبطه وجعل يداعبها ويسألها: هل تعرفني؟ فهزت رأسها باسمة ولم تنطق بكلمة.
Неизвестная страница