182

فقال: لا أدري. رجل جاء وأراد أن يراك ولكن لا مؤاخذة فالأوامر مشددة ؟

ثم أخذ يحدثني عن نزلاء سجنه حديثا فكها يقطعه بالفكاهات المرحة، فأذهب عني ما كان بصدري من الضيق.

كان كل رقم من هؤلاء النزلاء يمتاز عنده بشيء يجعله جديرا بالتحدث، فالرقم 110 تاجر في خان الخليلي وهو متهم بتجارة المخدرات، وبلغت أرباحه في العام الماضي وحده مائة ألف جنيه، ولم يضبط لسوء حظه إلا في آخر مرة عندما اختلف مع رجل من أهل الصعيد على شراء صفقة كبيرة، كان الرجل يريد أن يشتريها بخصم 10٪ من ثمن القطاعي، ولكن التاجر أبى فأبلغ المشتري رجال البوليس عنه، وانقلب إلى مساعد لرجال الأمن حتى تمكنوا من ضبطه، وكان نازلا بالسجن تحت التحفظ حتى يتم التحقيق، ولكنه يكلف المأمور مشقة عظيمة في مراقبته حتى لا يعقد صفقات جديدة داخل جدران السجن، وقد لاحظت في طابور النزهة أن ذلك الرقم رجل ضخم يسير شامخ الأنف ويلبس جلبابا من الحرير الأبيض، ويمسك في يده منشة بيضاء أنيقة.

وأما الرقم 213 فإنه من صنف آخر، وقد لاحظت أنه يلبس بيجامة فاخرة من الحرير الملون، ويدلي من جيبها الأعلى على يسار صدره منديلا أحمر، وقال عنه مأمور السجن: إن الطعام الفاخر يأتي إليه كل يوم من المرأة التي يعيش في ظلها، وهي كل يوم تحمل إليه الطعام بنفسها وتبكي؛ لأنها لا تتمكن من رؤيته، وتهمته أنه طعن منافسا بالسكين من أجل المرأة.

وأما الرقم 190 فإنه رجل شاذ لا يكاد يقضي مدة السجن في جريمة خلقية حتى يعود إلى ارتكاب جريمة أخرى.

وكان المأمور خبيرا بكل أحوال رعيته يتحدث عن كل رقم منها كما يتحدث صاحب المزرعة الهاوي عن السلالات الممتازة من الحيوانات التي في حظائره.

ولما فرغ من حديثه أخبرني بأنه قد اختار لي غرفة ممتازة في الدور الأعلى فيها مصباح كهربائي وفراش نظيف، وعلى مقربة منها دورة مياه، وقال: إنني أستطيع أن آمر بشراء ما أريد من طعام، وأمر بحمل الحقيبة وصعد معي حتى أوصلني إلى غرفتي وهمس قبل أن ينصرف: يمكنك أن تقرأ الصحف عندي في الصباح.

فشكرته من أعماق قلبي وصافحته في حرارة، ولما دخلت غرفتي فتحت الحقيبة، وأخذت أخرج ما فيها وأرتبه في مواضعه، فالركن الذي يلي سريري للكتب، وما كان أكرم هذا الصديق الذي أرسل إلي، وهو بغير شك الأستاذ علي مختار، ومن ذا يمكن أن يفكر في غيره؟ ولم أضع شيئا في الركن الذي أمامي؛ إذ كان لا يصلح لشيء لقرب الباب منه، وأما الركن الثالث فقد كان يصلح لأن أعلق فيه شماعتين إحداهما على المسمار الأسفل والأخرى على المسمار الأعلى، ويمكنني أن أضع عليهما ما في الحقيبة من الأقمصة، وأما أدوات الحلاقة والملابس التحتانية والمناديل وما إلى ذلك، فلا يضرها أن تبقى في الحقيبة لآخذ منها ما أحتاج إليه في حينه، والمحل الصالح للحقيبة هو الركن المنعزل تحت قدمي السرير، وبالغ مأمور السجن في إكرامي فبعث إلي ببعض الأطعمة الخفيفة للعشاء مع فنجان لذيذ من الشاي، فعزمت على أن أكرر له شكري إذا نزلت في الغد إلى طابور النزهة، وهكذا وطنت نفسي سريعا على الإقامة في سجن الاستئناف، وبذلت كل جهدي في صرف فكرة إتمام التحقيق والقلق من الانتظار، وسلمت أمري إلى الله تعالى.

الفصل الخامس والعشرون

مضت أربعة أيام بغير أن أسمع شيئا عن التحقيق الذي وضعت تحت التحفظ من أجله، وكان مما زادني ضيقا أني كنت أسمع في كل يوم بالإفراج عن بعض الأرقام الأخرى، ومن بينها التاجر في المخدرات والشاب الذي يعيش في ظل المرأة والمجرم العائد صاحب الجرائم الخلقية، كل هؤلاء يفرج عنهم بكفالة مالية، وأما أنا فأبقى في السجن حتى يتم التحقيق، ومتى؟

Неизвестная страница