149

الفصل التاسع عشر

عدت من دمنهور إلى دوامة العمل مرة أخرى، ولا أذكر أني كنت في يوم من أيام حياتي أشد قلقا وشعورا بالوحشة مما كنت في تلك الأيام، كنت أحس أن الحياة أصبحت فراغا خاويا ليس من فوقه سماء تظلني ولا من تحته وطاء يحملني، بل كنت ضيقا بنفسي حانقا عليها بغير أن يكون في حياتي المعتادة ما أشكو منه، كنت موفقا في عملي وكان الأستاذ علي مختار يزداد تقديرا لي يوما بعد يوم، وكنت دائما أوسع دائرة علاقاتي بزملائي من الصحفيين وبغيرهم من رجال السياسة والحكم، وأغتبط بما أجده عندهم من التقدير والتكريم، وكنت في حياتي الخاصة أشبه بأن أكون سعيدا خاليا مما يثير الهموم، ولكني مع هذا كنت أحس كأن قلبي في قبضة مارد جبار يعصره بغير رحمة، واستولى على قلبي خيال واحد لا يكاد يفارقني في ساعة من الليل أو النهار، فيتمثل لي إذا جلست لأكتب مقالاتي في دار الجريدة، وإذا سرت في طريقي أو جلست في حجرتي المنعزلة في المساء أو أغمضت عيني لأنام، بل إنه كان لا يفارقني إذا كنت غارقا في زحمة الناس وضجة الحياة الصاخبة التي لا يعرفها إلا من عرف مهنة الصحافة؛ كان ذلك خيال منى.

وفي الصباح عندما أذهب إلى بريد الأحرار كان أول سؤال أسأله: «هل جاء إلي خطاب؟» فإذا وجدت خطابا نظرت إلى خط العنوان في لهفة، فإذا كان من عند أختي ذهبت إلى ناحية وتفرغت لقراءته لعلي أجد فيه كلمة تشير إلى منى، ولكني كنت في أكثر الأحوال أطوي الخطاب خائبا؛ لأن أختي كانت تكتب لي عن كل شيء تافه، ولا تكتب لي عن منى كلمة، ولا أذكر أني تأخرت مدة يومين اثنين في الرد على أختي، كان قصدي من ذلك أن أجعلها تكثر من الكتابة إلي لعلها تقول لي الشيء الذي أنتظره، وإن كنت لم أحدد بالذات هذا الشيء الذي أنتظره، كان في ذهني سؤال واحد كبير غير محدد، وهو أني تركت دمنهور بغير أن ألقاها أو أبعث إليها بكلمة، بعد أن مزقت الوثيقة الخطيرة التي كانت في يد حمادة الأصفر، فلا أعرف إن كانت الأمور قد تطورت أو استقرت على صورة من الصور، فهل كنت حقا كما وصفني صاحبي عبد الحميد أحمق مثل دون كيشوت؟ هل مهدت حقا لمحمود خلف أن يصير زوجا لمنى؟ وما الذي منعني من أن أذهب إليها قبل سفري لأقول لها: إني مزقت الوثيقة التي كانت تخشاها ثم أجهر لها بكل ما نفسي وأعترف لها ولمن يحيط بها وبي بأني أحبها ولا أعيش إلا من أجلها؟ ما الذي حملني على التسلل هكذا من دمنهور بغير أن أنصف نفسي، وتركت الأمور بعد ذلك تجري في مجراها؟ أكنت أخشى أن تسخر مني عندما أفضي إليها بالحب الذي أحمله لها؟ أم كنت أخشى أن يسخر الناس مني ويتهموا الدوافع التي تدفعني؟ وماذا علي لو كنت جهرت لها وللناس وتركتهم يسخرون بي كما يشاءون؟ على أن الدنيا التي كانت حولي لم تعبأ بضيقي ولا بقلقي، وكان كل شيء يسير في مجراه مثل الآلة الضخمة التي لا تقف إذا اعترضها بائس مسكين، فحطمته في سبيلها، كانت جريدة «بريد الأحرار» تظهر كل يوم في الصباح على عادتها، وكانت المجامع والمصالح والأحزاب تضطرب فيما حولي وتغمرني في ضجتها بما أنطوي عليه من القلق والحيرة كما تغمر الدوامة الشديدة حشرة غريقة.

فإذا عدت إلى بيتي في المساء وجدت المصباح الضئيل يستقبلني في الدهليز المظلم، ثم أدخل إلى الفناء الرطب وألمح الغرفة التي يجتمع فيها الشيخ مصطفى ورفاقه بعد العودة من الدكان ليتموا السهرة وهم سعداء بالنسيان، ثم أصعد إلى غرفتي لأخلو مع كتبي وقلمي وهواجسي.

ومما زادني شعورا بالضيق أنني أصبحت مضطرا لخدمة نفسي بعد أن غضبت فطومة مني عقب تلك الليلة التي ذهبت فيها إلى حفلة استقبال الأمير الشرقي في قصر الوجيه حسام الدين، فإنها امتنعت من بعدها عن ترتيب غرفتي وإعداد إفطاري وغسل مناديلي وملابسي، وكنت لهذا مضطرا إلى أن أعمل بيدي كل ما أحتاج إليه أو أبحث عمن يقوم لي بعمله، وكان ذلك يحيرني ويزيد من ضيقي، وفكرت في الانتقال إلى مسكن جديد، ولكن الحالة النفسية التي استولت علي جعلتني لا أقدر على تركيز أفكاري في أمر من الأمور أو جمع إرادتي لتنفيذه، وهكذا مضت الأشهر بي حتى اشتد فصل الصيف بحره وبحوادثه الكثيرة التي بعثت إلى الجو السياسي حرارة أشد من حر الصيف، وزاد نصيبي من العمل فصار الأستاذ علي مختار يكلفني بأعمال مختلفة كلما جدت فضيحة من الفضائح المتعددة التي كانت تتوالى أسبوعا بعد أسبوع؛ فضيحة القطن وفضيحة تجارة المخدرات وفضيحة الراقصة التي رفعت رأس رئيس وزراء مصر عاليا في محافل أوروبا عندما عرضت رقصاتها المبتذلة في مواخيرها، وجزيرة كابري التي صارت بقعة مقدسة منذ حل بها الملك الخليع ليظهر للعالم أنه آمون المعبود الجديد الذي يركع له شعب من العبيد، فكنت في كل يوم أفرغ ضيقي وحنقي في مقال تحت عنوان: «أنا الشعب»، الذي أصبح يوميا بعد أن كان أسبوعيا، ومن أجل هذا كنت لا أكاد أفرغ من تحقيق في نيابة الصحافة حتى أبدأ في تحقيق آخر، حتى سماني زملائي ألمع نجوم القضايا السياسية.

وعدت في ليلة مبكرا إلى بيتي منقبض الصدر بعد صباح طويل قضيته في نيابة الصحافة، وعمل متصل في الجريدة بعد الظهر إلى غياب الشمس، وكانت ليلة شديدة الحر اجتمع لي فيها كثير مما يزيد ضيقي وهمي، من تعب الجسم وتوتر الأعصاب وخيبة الرجاء؛ لأني كنت أرسلت إلى أختي خطابا منذ أسبوع سألتها فيه بغير إبهام أن تخبرني عن أحوال منى، فجاءني الرد قبل خروجي من دار الجريدة ففتحته في لهفة وقرأت فيه كثيرا من الأحاديث المفصلة عن كل شيء سوى منى، لم تكتب لي منيرة عنها إلا جملتين صغيرتين في آخر الخطاب تقول فيهما أن منى بخير، وتسأل عن صحتي!

وكانت الليلة مقمرة فأردت أن أفرج عن نفسي بجلسة هادئة تحت السماء الصافية، وأخرجت الكرسي الطويل إلى السطح، واسترخيت في جلستي عليه مستندا برأسي إلى ظهره، وسبحت في سنة من القيظة الحالمة، هي بخير وتسأل عن صحتي! هكذا يقول الناس إذا تلاقوا في الطريق عفوا: «كيف صحتك؟» ثم ينصرف كل منهم في طريقه، هكذا أنا أسأل عنها وهي تسأل عن صحتي ويمضي كل منا في طريقه، أنا هنا في هذا البيت أناجي همومي وأحاول أن أفرج عن نفسي بالجلوس تحت السماء فوق سطح منزل الحاج مصطفى، ومن ورائي هذه الغرفة المسكينة، وأما هي فتسأل عن صحتي وتمضي في سبيلها، لتستعد ليوم الزفاف وتجهز الثياب والأثاث لاستقبال محمود خلف، ودارت في داخلي مناقشة عنيفة كأني كنت أنطوي على شخصين منفصلين يتنازعان في حدة وحرارة، وكل منهما يثير من ناحيته الآلام في قلبي، كأن أحدهما يخجلني من نفسي؛ لأني أتطلع إلى أمور لا ينبغي لمثلي أن يتطلع إليها ويتهمني في صراحة أنني أشبه المملوك في الأزمان القديمة عندما كان يتطلع إلى ابنة سيده، وكان الثاني يغضب ويرفض ويتهمني بالتقصير في حق نفسي وحق منى؛ لأني لم أتقدم نحو أمنيتي جريئا صريحا، ولم أواجه موقفي كما ينبغي للرجل الحر الذي يحترم نفسه أن يفعل، وكانت نتيجة هذه المحاورة الخانقة أنني لم أشعر بأنس إلى ضوء القمر، وخيل إلي أن الفضاء أشد ظلمة من جدران الجحر الأسود الذي عرفته في مركز دمنهور، وكما يفيق الحالم من نومه رأيت فطومة تصعد من السلم وتتسلل في ضوء القمر إلى الناحية الأخرى من السطح، ثم تقف هناك مطلة على الحارة الضيقة، ووجدت نفسي أنكمش في مكاني كأني أريد أن أختفي، وخطر لي أن أقوم من مجلسي فأدخل إلى الغرفة وأغلق بابها ورائي، ولكني بقيت ثابتا في مكاني كأني هامد لا أقوى على الحركة، وبقيت فطومة في مكانها دقيقة أو دقيقتين ثم ارتدت متجهة نحوي، وكانت تسير متباطئة وتتلفت حولها كأنها لا تراني، ولما اقتربت مني زاد انكماشي، ولكني لم أجد بدا من أن أعترف بوجودها، فتكلفت الثبات وقلت لها هادئا: مساء الخير يا فطومة.

فأجابتني في نغمة عابسة متحفزة: مساء الخير يا عيني.

ووقفت أمامي وكان وجهها مصفرا تحت ضوء القمر، ولكنها كانت صفرة تشبه لمعة الثوب الحريري الأنيق، أهذه فاطمة؟ كانت عيناها تأتلقان بنور خاطف من بين رموشها الطويلة المكحلة، وكانت ملامح وجهها تنطق بعاطفة ثائرة، كانت تلك أول مرة رأيتها فيها في مثل تلك الصورة.

كانت في زينة ثقيلة من الحلي في يديها وفي أصابعها، وكان قرصان واسعان يتدليان من أذنيها إلى قرب كتفيها ...

Неизвестная страница