فرفع رأسه وكان وجهه محتقنا كما كان يحتقن في صباه إذا كبت شعوره، ثم قال: كنت دائما تتهمني بالهدوء وتقصد بذلك الفتور؛ لأني لا أرضيك بالتحمس الثائر، لا يا سيدي فأنت لا تعرف ما في داخل قلبي، لست أخشى الثورة ولكني أخشى الفوضى.
وضاق صدري من هذا الجدل، فقلت وأنا قائم: هذا أسلوبك في التفكير دائما: أنت تريد أن تنتظر مع الزمن مع أنك تؤمن بأن الزمن خرافة، وأن الحركة هي الحقيقة، وأنا أريد أن أستعجل الأمر بإحداث الحركة القوية التي تختصر الزمن.
فقام ومد يده مصافحا وقال مبتسما: هذا حسن يا صديقي، دعني أمد لك يدي لأقول لك: إننا مختلفان حقا في الأسلوب وإن كانت غايتنا واحدة، لعل في طبعك أن تكون مجاهدا في الطليعة، فدعني أنا لأكون مجاهدا في المؤخرة.
فقلت وقد شعرت بالأسف على عنفي: أحب أن تعرف يا صديقي مبلغ شعوري بأني مدين لك .
وشددت على يده في إخلاص، ثم قلت: سأحاول أن أعود إليك بين حين وآخر؛ لأتزود من أحاديثك، فإنك بمناقشاتك تفتح لي آفاقا جديدة ما كنت أراها.
وقمت لأشيعه إلى الباب وأنا شاعر بأني أشيع أستاذي.
الفصل الحادي عشر
قمت مبكرا في اليوم التالي لأسافر في أول قطار إلى القاهرة، وجلست للإفطار مع أمي وأختي، وأحسست عند ذلك بأني مقدم على خطوة خطيرة، سأفارق كل من لي في الحياة، وسأترك دمنهور التي عرفتها حارة حارة وبيتا بيتا ودكانا دكانا، وخيل إلي أنها أعز البلاد وإن كنت قاسيت فيها ما قاسيت، ولم أجد قبولا لأكثر من فنجان من الشاي باللبن، وقبلت يد أمي في شغف، وحملت حقيبتي وعرضت علي منيرة أن تسايرني في ذهابها إلى المدرسة حتى نبلغ المحطة، ونزلنا ودعوات أمي تشيعنا من فوق السلم، ولم أنس أن أقرأ الفاتحة لسيدي «أبو طاقية» عندما مررت قريبا منه، وأخذت أحدث أختي عن خطتي التي عقدت النية عليها: وهي أن أفارق دمنهور العزيزة إلى الأبد، وشعرت بغصة في حلقي وأنا أقول لها هذا، وكدت أحدثها عن منى، ولكني لم أجرؤ، فاكتفيت بأن قلت لها: هل أعددت ثوبك الجديد؟
ولكني ارتبكت عندما تذكرت أنها لم تدع لحفلة الخطبة إلا منذ ليلة، فأسرعت قائلا: عندك أسبوع كامل لتذهبي إلى خياطة ماهرة، ستكونين بغير شك أجمل فتاة هناك.
فقالت باسمة: ما عدا منى طبعا، إنها أظرف فتاة عرفتها وكأني لم أفارقها منذ كنا أطفالا.
Неизвестная страница