32

Конец света

آخر الدنيا

Жанры

2

ولم أترك طريقا أسلكه ليوصلني لأولاد الليل إلا طرقته ... كنت أضيق بصحبة لداتي من تلامذة البلدة وطلبتها، وأجوب الغرز والقهاوي بحثا عن أخبار سرقة أو جريمة، أو أملا في العثور على رجل شاف أو رأى وجالس يحكي ... وكان منقذي الدائم هو عم خليل ... كان عم خليل يعمل خفير طماطم في عزبة قريبة مجاورة، وكان عجوزا تخطى الخمسين، ولكنه قضى شبابه كله، وجزءا من رجولته لصا كبيرا وابن ليل؛ وربما من أجل هذا السبب اختاره صاحب العزبة وعينه خفيرا على المائة فدان.

كنت آخذ له باكو المعسل والسكر والشاي، والشاي بالذات؛ فقد كان كييف شاي، يضع الأوقية كلها في التلقيمة الواحدة، ويعمل الشاي من ثلاثة أدوار، الأول سادة، والثاني بخدشة سكر، ولا يسمح لي بأن أشرب إلا من الدور الثالث الحلو ... وكنت أجد في صحبة عم خليل متعة كبرى ... فقد كان إذا تسلطن من الشاي والدخان، بدأ يحكي عن مغامراته وعن كبار اللصوص الذين عرفهم، وعن البهائم التي سرقوها، والجدران التي نقبوها، والمنازل التي دخلوها، وكنت أحب منه عدم مبالغته في ذكر بطولاته الشخصية وتمجيد أدواره، كان دائما يلعب لأي عصابة يعمل معها دور المراقب، أو المشاهد الذي يحمي ظهر المهاجمين ويحذرهم ... وكان خليل هو الآخر يجد في صحبتي متعة، فهو وحيد عجوز تعدى الخمسين، يقبع طول الليل والنهار في ذلك العش الذي صنعه لنفسه على رأس المائة فدان المزروعة طماطم، وكان أعور يغطي نصف وجهه بمنديل محلاوي متسخ بطريقة لا يبدو معها أنه يخفي عوره. وكان يحب الكلام ويحب أن يحكي عما فعله في الزمن الخالي ... وكان يجد في خير مستمع، وكان يقضي الساعات يحكي ولا يمل. ساعات يلتهب فيها خيالي البكر، وأجد نفسي بقوى أكبر مني مدفوعا؛ لا لكي أسمع فقط، ولكن لكي أعمل وأنضم إلى عصابة مثلا، وأشاهدهم وهم يشتبكون ... وكنت حينئذ أسأله إن كان يعرف أحدا من أولاد الليل المعاصرين الذين كنا نسمع نتفا متفرقة عن حوادثهم، كان حينئذ يقول باشمئزاز يكشف عن فكه الأسفل الأثرم، ويهز بيده علامة اليأس، ويقول: أولاد ليل إيه دول؟ دول عيال ... أولاد الليل كانوا زمان ... إنما دلوقتي ... يا شيخ ... دول شوية عيال.

وكنت أصدق عم خليل؛ إذ من الحكايات التي كنت أسمعها، كان واضحا أن عالم البطولات والأمجاد قد ولى بعد أيامه وعصاباته. وكنت أتحسر حقيقية ويملؤني الضيق؛ لأني لم أوجد قبل وجودي بأعوام، وفاتني هذا الزمن القديم الحافل.

شخص واحد فقط كنت إذا سألت عم خليل عنه لا يشيح بيده أو يشمئز، وإنما يتولاه وجوم ويقول: آه ... الغريب أبو محمد ... دا ما له ده؟ ... أهو ده اللي فاضل من أيام زمان.

ذلك أن الغريب أبو محمد كانت شهرته، كابن ليل مدوخ بوليس، قد بدأت تعم الآفاق ... وكان من غير الجيل الذي يتحدث عنه عم خليل، ولكني حتى وأنا في هذه السن، كنت أستطيع أن أدرك بوضوح أن عم خليل لا يستطيع أن ينكر على الغريب مكانته، ولكنه يفسر جدعنته ورجولته بادعاء أنه الجزء الباقي من الماضي الغابر!

وحين كنت أطلب من عم خليل وألح في الطلب أن يجعلني أرى الغريب أبو محمد ولو مرة واحدة، كان يتنصل ويعتذر، ويبدو عليه أنه أفاق من حالة التفتح الوجداني الذي كان سادرا فيه ويقول: ما لك إنت يا بني ومال الناس دول؟ ... يكفيك شرهم.

فلا يفزعني رده، وأستنكر أن يكون هو نفس الشخص الذي كان من هنيهة يشيد بأولاد الليل وحياتهم وأشخاصهم، وأنه هو نفسه كان منهم، فيعود ويقول في صوته الخائف خوف الموت من العودة ... إن الله قد رضي عنه ... وإنه تاب، وإن هذا كان زمان وأيام زمان ... أما الآن فإنه يصلي والحمد لله يصوم رمضان. والحقيقة أنه لم يكن يصلي أو يصوم، وكنت أرى بعيني رجالا يأتون إليه؛ ليخفوا عنده أشياء ويعودوا بعد أيام يستردونها. وأراهم وهم يغمزونه، وأراه وهو يعود إلي وفيه اضطراب ويقول: آه ... أيوه ... احنا كنا بنقول في إيه.

ويبدأ يتحدث فإذا بها نفس الحكاية التي قالها لي مرة، وأصبر قليلا علها تكون مختلفة. وإذا بها هي بنفس تفاصيلها، فأقول له هذا، فينتقل إلى مغامرة أخرى لا جديد فيها، فهي أيضا قد سمعتها. ومع أني كنت قد اكتشفت أنه لم يعد لديه شيء جديد؛ إلا أني لم أكف عن التردد عليه في عشته التي كان يسميها «الطيارة»، ويراقب منها بعين واحدة كليلة عليها سحابة فدادين الطماطم الشاسعة ... لم أكف؛ لأني في قرارة نفسي كنت عن طريقه أريد أن أعثر على الغريب، وكنت أعرف أنه خيطي الوحيد الذي لا أعرف سواه، وكنت أطمع أن يحدث هذا يوما ما مهما كثرت الأيام. وكانت الإجازة الصيفية تنقرض وأيامها تسرع، وشغفي يزداد وأملي يكاد ينفد.

ولم أكن أتصور أن الإجازة لن تنقضي إلا وقد عرفت الغريب، وعرفته بطريقة لم أكن أيضا أتصورها.

Неизвестная страница