31

Конец света

آخر الدنيا

Жанры

تصور أنني جاءت علي فترات في حياتي، كان حلمي الوحيد فيها أن أقتل إنسانا أي إنسان. أقتله هكذا بلا سبب وبلا رغبة إلا رغبة القتل في حد ذاتها ... ولا تنهك نفسك وتحاول أن تبحث في طبك، أو في كل علوم النفس الحديثة عن تفسير لهذه الرغبة؛ فأنا لم أكن مريضا أو شاذا أو أعاني من مأساة عائلية. كنت تلميذا عاديا جدا، بالكاد تعديت الرابعة عشرة من عمري، وكنت أعتبر رغبتي هذه رغبة طبيعية جدا لا شذوذ فيها ولا انحراف، وأنها لا تعن لي فقط، ولكنها لا بد موجودة عند كل الناس، ولا بد قد استبدت بهم يوما، خاصة وهم يضعون أقدامهم على عتبة الرجولة، أن يقوموا بعمل خارق يحسون بعد القيام به أنهم قد أصبحوا رجالا ... بعضهم يترك البيت مثلا ويحاول البحث عن عمل يتقاضى عليه أجرا، مثلما يفعل الرجال الكبار ومثلما يفعل أبوه. وبعضهم يبدأ يسهر في الخارج ويعود متأخرا، ويصطدم بأهله ويقول لهم بأعلى صوته: «أنا حر أسهر على كيفي ... أنا راجل». وبعضهم يبدأ بحمل بندقية أبيه على كتفه وإطلاق النار، فإذا اعترض أبوه على تصرفه هدد بقتل نفسه أو بقتل من يعترض طريقه «يقصد أباه»، وبعضهم يحلم بامتلاك مسدس ... وكلها رغبات طبيعية الهدف منها أن يثبت كل لنفسه أنه قد أصبح رجلا، ويثبت لها بطريقة الرجال الخشنة.

كل الخلاف بيني وبين من كانوا في سني أني غاليت قليلا في رغبتي، وأردت أن أدخل عالم الرجال بأن أقتل أحدهم، وهي على العموم كانت رغبة دفينة لا أجرؤ على إظهارها حتى لنفسي، ولكني أحس بوجودها وأسعى إلى تحقيقها وكأنما من وراء نفسي. ومن ورائها لأني كنت أخاف ألا أكتفي بقتل رجل واحد، وأن أنساق في هذا الطريق ... ولكني كنت أطمئن نفسي وأقول إن هذا لن يحدث.

وأدلل لنفسي على هذا بأن أستعرض ما كنت أفعله مع القطط وأنا صغير؛ إذ كنت وأنا طفل أخافها جدا، أخاف شواربها الطويلة وتكشيرتها ومخالبها البشعة، وكنت أرنو إلى اليوم الذي أكبر فيه وأستطيع إخافتها، وأنتقم لكل ما سببته لي من رعب ... وارتبط الكبر في نفسي بقدرتي على إخافة القطط والكف عن الخوف منها؛ ولهذا لم أكف عن مطاردتها أبدا. وهدفي أن أنجح ذات يوم في حصارها وإرعابها، وإمتاع نفسي بمشهدها وهي خائفة مني ... وكم طاردت من قطط، وكم نجحت في إغلاق الأبواب والنوافذ لمنعها من الهرب، ولكني دائما كنت أفشل في حصارها وتهرب. مرة واحدة فقط نجحت في حبس قطة في إحدى حجرات بيتنا. كانت قطة الجيران وكنا نكرههم، وكنت قد اعتزمت في ذلك اليوم لا تخويفها فقط، والاكتفاء بسعادتي لرؤيتها خائفة، ولكن على تمويتها أيضا.

ظللت أجري وراءها حتى دخلت حجرة المخزن وكل نوافذها وفتحاتها محكمة الإغلاق، فدخلت وراءها مسلحا بعامود حديد من عمدان نافذة قديمة. وأغلقت الباب واستمتعت أيما استمتاع بالورطة الكبرى التي حلت بالقطة، تقفز من الأرض إلى السقف ومن السقف إلى الأرض، وتبحث في هلع عن مخرج، وتصرخ صرخات مرعوبة متصلة، وكل ما فيها قد وقف يرتجف ويرتعش، والباب من ورائي محكم الإغلاق، وأنا أتقدم ناحيتها بخطى بطيئة، والعامود الحديدي مرفوع فوق كتفي ومستعد لأخبطها به الخبطة الواحدة القاتلة.

مضيت أتقدم ببطء وأنا أنعم بحالة الرعب المميت التي تملكتها، وأستعيد كل ما قاسيته في صغري من رعب، وأسعد بنفسي وبكبري، وبهذا الانتقام الضخم الذي أتيح لي أن أقوم به ... وفجأة توقفت في مكاني، فالقطة كانت قد أدركت بعد مجهود هائل مريع ألا مخرج لها من الحجرة وأنها هالكة لا محالة ... ولا أعرف إن كانت فعلا قد أدركت هذا، ولكني لا أزال أذكر صرختها الأخيرة والركن المظلم الذي كنت قد أجبرتها على الانزواء فيه، ثم كيف كفت عن صراخها العالي المذعور، واستدارت لي تواجهني لأول مرة منذ أن بدأت مطاردتي لها، تواجهني بل وبدأت تمزق الأرض بمخالبها وتتقدم نحوي ... و... أعوذ بالله، نظرتها ... عيناها بالذات ... لن أنسى ما حييت الرعب ... أقصى درجات الرعب. حدقتاها مفتوحتان على الآخر وأنيابها مكشوفة كلها حتى آخر الفك، وهي تتقدم وقد بلغ رعبها درجة كنت متأكدا معها أنها ستقفز حالا، وتنشب أنيابها وأظافرها وشاربها والرعب المطل من عينيها ... ستنشب هذا كله في وجهي، وتمزق لحمي وتفقأ عيني وتلتهم زوري.

ونظرة واحدة فقط هي التي ألقيتها عليها، وهي التي سمرتني في مكاني أنظر إلى رعبها اليائس المجنون وتتفكك أوصالي ... ولا أدري كيف أنقذت نفسي في آخر لحظة، وفررت من الحجرة وأنا أجري خائفا مرتعشا لا ألوي على شيء، أبحث عن أمي لأحتضنها وأرتعش وأخفي وجهي وعيني في صدرها، وأتمنى لو استطعت أن أختفي بكلي داخلها! •••

ربما مغالاتي في إثبات رجولتي بقتل رجل سببها هذه المغالاة التي دعتني لأن أثبت أني تركت الطفولة وكبرت، بتحولي من خائف من القطط إلى مخوف لها. تلك العادة التي تركتها تماما بعدما حدث لي مع القطة المرعوبة في المخزن. ولو كنت أعلم أن رغبتي هذه الثانية لإثبات رجولتي ستقودني لموقف أكثر رعبا وأشد بشاعة؛ لترددت قليلا وأنا أركب رأسي، وأصمم وأبيت النية في صدري، وأتكتمها وأسعى حثيثا حثيثا لتحقيقها!

أما لماذا عن طريق القتل بالذات؛ فقد تقول إنها استمرار لنزعتي وأنا صغير، ولكن الواقع غير هذا؛ فالقتل في حد ذاته لم يكن هو ما يجذبني ... القتلة هم الذين كانوا يجذبونني ... هؤلاء الناس الذين يسمونهم في مديريتنا أولاد الليل، هؤلاء الذين يحكمون مملكة الليل ويقتلون من يعترض سبيلهم فيه ... في تلك السن كنت شديد الإعجاب بأولاد الليل هؤلاء إلى درجة أني في أحلامي؛ لكي أصبح رجلا، كنت لا أريد إلا أن أصبح واحدا من الذين يقشعر لذكرهم العاديون القانعون بلقمهم وحياتهم ... كانت الرجولة في رأيي مرتبطة بأعمال غير عادية وبرجال غير عاديين. كانت الرجولة في رأيي هي رجولة أولاد الليل ... كنت أريد إذا أصبحت رجلا أن أصبح واحدا من الذين يقشعر لذكرهم الرجال في بلدنا؟!

بالاختصار كنت أريد أن أصبح بطلا باعتبار أن الرجولة لا بد أن تكون بطولة، ومثلي الأعلى كان أولاد الليل ... ولهذا كنت دائم التتبع لتحركاتهم، وأتفه ما يحدث لهم تماما كما يتتبع شبان هذه الأيام أبطال السينما، ويتحرقون شوقا إلى أخبارهم ... وكان حلمي الدائم أن أتعرف بهم أو بأي منهم، وأن يصاحبني ويعلمني حرفة أولاد الليل ويجعلني أقتل، وأصبح في النهاية رجلا.

كنت في الرابعة عشرة كما قلت، نحيفا شاحب الوجه هادئ الملامح، عمري ما تشاجرت أو اشتبكت أو شتمت أحدا، حتى كان أبي وأمي وكل الناس يقولون عني إني طيب وابن حلال ... ولم يكونوا يعرفون أبدا أن في صدري بركانا يريد الانفجار، وأن في رأسي أحلاما وعالما غامضا غريبا مختلفا تماما عن العالم الباهت الراكد الذي كنت أحيا فيه، عالم آخر فيه شجاعة وجدعنة ومخاطرة وصدام ... عالم لا بد أنه لا يوجد إلا في الليل، ولا يسمح بدخوله والحياة فيه إلا لرجل بطل ... لابن ليل!

Неизвестная страница