26 نوفمبر
أحسب في بعض الأحايين أن حظي فذ وحيد، وأن سائر الناس ناعمون وأنا وحدي الملعون، ثم أتصفح قول شاعر قديم، فأقرأ ما يأتي كأنه يعبر عما بنفسي: «متى تنتهي هذه الأحزان؟ أهناك شقي مثلي؟»
الرسالة الحادية والثمانون
30 نوفمبر
أرى أن مصيري قد قرر، وكل شيء يأتمر ليزيد من غمي ويومئ إلى حظي القابل.
لم تكن لي شهية للطعام في وقت الغداء اليوم، فسرت وحدي بجانب شاطئ النهر، وظهر الخلاء أمامي مهجورا، وكان اليوم معتما، وهبت ريح شرقية باردة من التلال، وحامت فوق السهل سحب سوداء مثقلة، ورأيت عن بعد رجلا يرتدي معطفا باليا يتجول بين الصخور، باحثا كما يظهر عن نباتات، وما دنوت منه حتى التفت إلي، فرأيت وجها قد ارتسمت عليه بوضوح علامات الكآبة الطويلة، وكان شعره الأسود الجميل منسدلا بلا انتظام على كتفيه، فتساءلت عما يبحث عنه، فأجاب وهو يتنهد تنهيدة بعيدة: «أبحث عن الأزهار يا سيدي، ولكنني لم أجد بعد ولا واحدة.» فخبرته أن الفصل ليس بفصل الأزهار، فقال: «ولكن هناك أزهارا كثيرة مع ذلك، وعندي ورود وزنبق كثير من صديقتي، وقد أعطاني أبي نوعا واحدا، وهي تنمو بكل مكان. لقد مضيت هذين اليومين في البحث، ولكنني لا أجد واحدة، إن هناك دائما أزهارا صفراء وزرقاء وحمراء في الحقول هنا، خصوصا القنطورس الذي ينمو في لمم جميلة، ومع ذلك لا أجد ولا واحدة من أي نوع.» فسألته لم يريد هذه الأزهار، فابتسم وقال رافعا إصبعه مرتابا: «ولكن لا تخبر أحدا، لقد وعدت فتاتي العزيزة باقة منها.» فقلت: «هذا حسن.» فقال: «أوه، إن عندها كل شيء؛ فهي غنية جدا جدا.» فقاطعته: «ولكنها تخص بالحب باقاتك.» فقال: «أوه، عندها مجوهرات وتاج.» فسألته عن اسمها، ولكنه استمر يقول: «وإذا نقدتني الهيئة
1
الممثلة لكنت رجلا آخر، يا لنفسي! لقد مضى علي وقت كنت فيه سعيدا، سعيدا جدا جدا، ولكن لقد مر ذلك الزمن، لقد فات، لقد فات.» وهنا رفع عينيه الدامعتين إلى السماء، فقلت: «إذا لقد «مضى عليك وقت «كنت» فيه سعيدا».» فأجاب: «آه! إنني لأود من السماء أن أعود كما كنت، نعم، لقد كنت سعيدا فرحا راضيا مسرورا، كنت كالسمكة في الماء.»
واقتربت امرأة عجوز وهي تصيح: «هنري، هنري! أين كنت؟ لقد بحثت عنك في كل مكان، تعال فقد جهز الغداء.» وسألتها عما إذا كان ولدها، فأجابت: «بلى، ولدي التاعس المسكين؛ لقد أراد الله أن يرمينا بهذا البلاء.» فتساءلت عما إذا كان مضى عليه وقت طويل في هذه الحالة، فأجابت: «لقد مضت ستة شهور على وجه التقريب وهو ساكن كما هو، الحمد لله، وكان قضى عاما كاملا، وهو هائج مقيد بالسلاسل في مستشفى للمجانين، أما الآن فهو لا يتعب ولا يضر أحدا، على أن حديثه كله عن الملوك والإمبراطرة. لقد كان شخصا فاضلا، وعضدني فيما مضى، وكان يكتب بخط جميل، ولكنه انقلب فجأة كئيبا منقبضا، وأصيب بحمى محرقة، ثم صار مجنونا هائجا، وهو الآن كما ترى.» فقاطعتها بالاستفسار عن الزمن السعيد الذي أشار إليه، فأجابت وعلى شفتيها ابتسامة رحمة: «آه! يا لولدي المسكين! لقد كان ذلك يا سيدي حين كان هائجا مقيدا، وهو لا يفتأ ينعى ذلك الزمن.» فدهشت وألقيت في يدها بعض المال، ثم افترقنا.
وحين أسرعت عائدا في طريقي كنت أقول لنفسي: «لقد كنت سعيدا، لقد كنت حينذاك كالسمكة في الماء، أهذا مصير الإنسان؟ أيكون سعيدا فقط قبل أن يبلغ العقل وبعد أن يفقده؟ يا للشقي المسكين! ومع ذلك فإنني أحسدك على حالك، أنت مليء بالآمال، تذهب لتجمع الأزهار لمليكتك في الشتاء، ثم لا تجد أزهارا فتستاء، ولا تستطيع أن تفسر استياءك. أما أنا فأسير بلا أمل ولا غاية، ثم أعود كما كنت، ويظهر لخيالك المختلط أنه إذا نقدتك الهيئة الممثلة لكنت رجلا ذا قيمة، ومن حسن حظك أنك لا تستطيع أن تعزو آلامك إلى أي قوة غريبة، أنت لا تعلم، أنت لا تشعر أن كل ألمك يخرج من عقل هائج ومخ مختبل، وأن كل ملوك العالم ليس في مكنتهم أن يساعدوك.
Неизвестная страница