كيف سكرت بنور النور ولم تحسي بنار الجحيم؟ وكيف لم تري دخانها وهي تشوي جلود الناس وعقولهم، وكيف غفلت عن زبانيتها وهي تبدل جلودها بجلود وعقولها بعقول؟ ولماذا سبحت مع الملائكة ولم تشعري بالوحوش التي تزأر حولك وتدمدم وتتربص وتنقض؟ وانتفض الطفل التائه في صدري خوفا: يا ربي! من يحميني من سيل النار؟ من ينقذني من فك الغاب؟ هل هذا هو ابن آدم الذي خلقته على صورتك واستخلفته في أرضك وعلمته الأسماء كلها؟ من هذا الذي يدق أرض السوق بقدميه؟ لا لا لا! هذا الإنسان الأفعى يجهد أن يلتف على الإنسان الثعلب. نزل السوق الإنسان الكلب ليفقأ عين الإنسان الفهد. قد جاء ليبقر بطن الإنسان الكلب، ويمص نخاع الإنسان الثعلب، وهتفت هتفت: يا ربي أين الإنسان؟ وخلعت النعل البالي ووضعته تحت إبطي وجريت.
قلت وأنا ألمح نعله الأصفر المتآكل المتسخ بتراب الأرض وعرق الجسد والسنين: حتى أدركتك فتوقفت.
أعطاني ظهره وأوشك أن يحرك قدميه وساقيه فأمسكت ذراعه وقلت: لا يمكن أن أتركك الآن.
حاول أن يتملص من قبضتي: لا بد أن أذهب يا ولدي، لا بد ...
رفعت صوتي النحيل كغصن يابس وأنا أقول: أبسبب حلم تترك أهلك ومدينتك؟
أجاب متوسلا: هو كابوس رأيته طول العمر ولم أفق منه إلا اليوم.
ضحكت وأنا أضرب صدره: ما دمت قد أفقت منه ...
قاطعني أسرع من الريح: الناس نيام يا ولدي فإذا ماتوا انتبهوا، وأنا انتبهت اليوم.
قلت: ولكنك لم تمت.
تحدرت كلماته دموعا تتقاطر في سمعي وعلى وجهي: بل مت كثيرا يا ولدي. مت كثيرا قبل اليوم، لكنني كنت أغمض عيني على حلم آخر؛ حلم أشهد فيه ملكوت الله وأحيا في مدن أخرى، وكنت أرجع إليه كل يوم كما يرجع العصفور إلى عشه الدافئ بعد أن دوخته الريح وأحرقته الشمس وطاردته الصقور والنسور والغربان والحيات.
Неизвестная страница