فأما الكرك: فهو في عصرنا حصن منيع، ومعقل حصين. وله ربضٌ عليه سور. وهو وربضة على جبل. وبين الربض والقلعة خندق عميق، نحو ستين ذراعًا. ويدخل إلى فضاء الحصن من حنية منحوتة في الجبل طويلة عليها بابةٌ وحراسةٌ.
ولما لم أجد له ذكرًا فيما طالعته من كتب التواريخ الموضوعة في صدر الإسلام، ولا في الكتب المصنّفة في لمسالك والممالك، لم أزل أبحث عنه إلى أن أخبرني ثقة أعتمد عليه: أنه كان ديرًا للنصارى. وكانت العرب تتخطّف منْ فيه من الرهبان مقيم، فسرق الرهبانُ بناءه وحصنوه. ولم يزل ذلك دأبهم في توسعته وتحصينه إلى أن صار حصنًا. واستدعوا أليه طائفة من الفرنج المجاورين لهم، وأسكنوهم فيه عندهم يتقوّون بهم على من يقصد أذاهم. فزاده الفرنج تحصينًا. وأقاموا فيه حاكمًا ورتبوا له جندًا. وجعلوا يشنّون منه الغارات على ما داناهم من القرى والضياع، إلى أن أجلوْا عنها كثيرًا من أهلها، واستولوا عليها، وصيرّوها له عملًا تحميه سيوفهم.
ولم يزل في أيديهم إلى أن ملكة البرنس أرناط صاحب إنطاكية.
وسبب تملكه له أنه لما تخلّص من أسر نور الدين محمود بعد موته، تزوج بزوجة صاحب الكرك بحكم أن زوجها مات فملكه. وكان نور الدّين قد قصده مرّة أخرى في سنة ثمان وستين، وحاصره ثم رحل عنه لسبب ومات، ولم يظفر منه بغرضٍ.
فلما ملك الناصر صلاح الدين في سنة سبع وسبعين قصده عز الدين فرخشاه نائب الملك الناصر صلاح الدين على دمشق والملك العادل من مصر.
وسبب ذلك أن البرنس " أرناط " صاحب الكرك كان من شياطين الإنس وأشدهم عداوة للمسلمين، فجمع عسكرًا وعزم على المسير إلى " تيماء "، ومنها إلى مدينة النبي ﷺ ليستولي على تلك البلاد، فسمع عزّ الدين بذلك فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده فنهبها.
فلما بلغ أرناط ذلك علم أن المسلمين لا يعودون إلى بلادهم حتى يُفرق جموعه، ففرقهم وانقطع طمعه عما قصده، فعاد عز الدين إلى دمشق.
وغزاه صلاح الدين بنفسه في سنة تسع وسبعين، فملك ربضة وتسلط به على حصاره، ونصب عليه المجانيق فلم ينل منه طائلًا. ورحل عنه في منتصف شعبان.
ثم غزاه في شهر ربيع الآخر من سنة ثمانين، فنصب المجانيق على ربضه، واشتد عليه القتال حتى مُلك، وبقي الحصن. وأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار في المجانيق ليطمه، فلم يقدر أحدٌ على الدنو منه لكثرة الرمي بالنشاب وأحجار المجانيق. فأرسل من فيه إلى الفرنج يستنجدهم، فساروا إليهم في عدةٍ وعديد. فلما بلغ الملك النّاصر رحل عنه وسار إلى " نابلس " فنهبها وخربها، وأحرقها.
ثم أن البرنس طلب الموادعة والمهادنة من صلاح الدين فأجابه، ولم يف. وذلك أنه عبر به " بالشُوبك " قفل من الديار المصرية في حالة المهادنة، فنزلوا عنده بالأمان، فغدر بهم وقتلهم، فنذر صلاح الدين على نفسه أنه متى ظفر به قتله، بسبب ما كان عزم عليه من قصده " المدينة " - صلى الله على ساكنها - وتأكد ذلك بأخذ القفل المذكور.
فلما كانت سنة ثلاث وثمانين، جمع الجموع من الموصل وديار بكر والجزيرة وإربل وبلاد الشرق وبلاد الشام ومصر، ونزل على " الكرك " فحصره، وضيّق عليه.
ثم بلغه أن الفرنج جمعت لدفعه عن الكرك، فرحل وترك عليه أخاه الملك العادل في عسكر.
والتقى السلطان الناصر صلاح الدين بالفرنج على " حطين "، وكانت الواقعة التي أسرت فيها أسرتهمْ، وثلث عروشهم، وزعزعت أسرتهم.
ولم يزل حصن " الكرك " محاصرا إلى أن فتحه الله في شهر رمضان سنة أربع وثمانين، من نائب البرنس " أرناط " بالأمان، بعد أن حوصر سنة ونصفا. وأعطاه لأخيه الملك العادل وأخذ منه " عسقلان ".
وكان البرنس قد أخذه الملك الناصر في وقعة " حطين " أسيرًا فوفى بنذره، وقتله بيده. وكان ذلك على الله يسيرًا. ولم يزل في يد نواب الملك العادل إلى سنة خمس عشرة وستمائة. وقبل وفاته بمدةّ يسيرة، سلمه لولده المعظّم شرف الدين عيسى بجميع ما فيه من الخزائن والذخائر، فزاد في عمارته وتحصينه، ونقل إليه أرباب الصناعات حتى جعله مدينة لا يحتاج إلى غيره ونصب في قراه الأشجار، وأجرى خلالها العيون.
ولم يزال في يده إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستماءة، وانتقل إلى ولده الملك الناصر داود.
1 / 73